دروس من انتفاضة آذار المجيدة عام 1991
6:50 ص | مرسلة بواسطة
hamid
حامد الحمداني
عندما قامت الانتفاضة المجيدة ،ضد النظام الذي جلب الكوارث لشعبنا ،في الأول من آذار 1991،كانت كل الظروف الموضوعية ناضجة لانتشارها في كافة المدن العراقية ،بعد سنوات طوال من الحكم الدكتاتوري الاستبدادي ، والجرائم التي ارتكبها هذا النظام بحق الشعب العراقي ،بكل فئاته وقومياته وطوائفه .
لقد أنتشر لهيب الثورة بأسرع مما كان يتصوره الكثير من الناس ، ليغطي العراق من أقصاه الى أقصاه ،ومما زاد في اندفاع الجماهير الشعبية للمشاركة في الانتفاضة هو اشتراك عناصر واسعة من الجيش في إشعال لهيبها ،وانضمام أعداد غفيرة من العسكريين الى صفوف الانتفاضة ، مما سهل كسر حاجز الخوف الذي أشاعه إرهاب النظام لسنين طويلة ،وظهر لأول مرة أن الجهاز الذي اعتمد عليه صدام حسين في حماية نظامه،قد بدأ بالتداعي ، بعد الهزائم التي ألحقها النظام بالجيش العراقي ، في معركة غير متكافئة مع الولايات المتحدة وحلفائها ، وتسبب ذلك في إذلال الجيش العراقي الباسل .
لقد بان للشعب العراقي أن النظام الصدامي بات قاب قوسين أو أدنى من السقوط ،ولم يشك أحد في نهاية هذا النظام الذي ارتكب الجرائم البشعة بحق الشعب والوطن .
لكن الأمور تغيرت بشكل مفاجئ ، بعد أن وضعت الولايات المتحدة وحلفائها ثقلهم الى جانب النظام الصدامي ، ومهدوا السبيل لقوات الحرس الجمهوري لاستعادة المبادرة ، وسهلوا لقواته المحاصرة جنوب الناصرية ، للعبور ومهاجمة المدن المحررة ، واستعادة السيطرة عليها ، مستخدمة شتى أنواع الأسلحة ، من دبابات ، ومدفعية ، وصواريخ ، وطائرات مروحية . وهكذا بدأ الحلم الجميل بإسقاط النظام يتلاشى شيئاً فشيئاً فلماذا حدث ذلك وما هي الأسباب التي أدت الى فشل الانتفاضة ؟
إن أهم أسباب فشل الانتفاضة :
1 ـ ضعف قيادات الانتفاضة ،وفشلها في استثمارها ، وتوجيهها ،وبُعد قيادات القوى السياسية المعارضة عن ساحة المعركة ، وتواجدها خارج البلاد ،وأنشغالها في خلافاتها السياسية مع بعضها البعض ،مما جعل مواقفها دون مستوى الأحداث التي ألمّت بالعراق وشعبه ، ورغم أن النظام الصدامي قد اضطهد كل القوى ، ونكل بها ، دون استثناء ، إلا أن ذلك الاضطهاد والتنكيل لم يحفز تلك القوى لتجميع قواها ، وتعبئتها حول قواسم مشتركة تناضل جميعها من أجلها ، وفي المقدمة من ذلك إسقاط النظام الدكتاتوري ،وإقامة البديل الديمقراطي التعددي ،الذي يضمن الحريات العامة للشعب ، ويقيم المؤسسات الدستورية في البلاد .
لقد استمرت تلك القوى في تباعدها عن بعضها ، وحتى احترابها،الى وقت متأخر جداً مما أفقد الانتفاضة عاملاً مهماً جداً من عوامل الانتصار .
لقد كان الأجدى بقيادات المعارضة التي اجتمعت في مؤتمر بيروت أن تتوجه الى المناطق المحررة من العراق ، لتنشئ قيادة ميدانية مشتركة لكافة القوى والأحزاب السياسية المنضوية تحت لواء ميثاق دمشق ، وتوجيه الانتفاضة نحو تحقيق المبادئ التي أقرها الميثاق ، فيما يخص إسقاط النظام الصدامي ، وإقامة النظام الديمقراطي التعددي والعمل على تحقيق الأهداف العامة التي نص عليها الميثاق .
إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث ، وتُركت الانتفاضة لتوجيهات بعض القيادات السلامية ، وبشكل خاص قيادة السيد[ محمد باقر الحكيم ] ، الذي دخلت قواته المسماة [ قوات بدر ] من إيران الى جنوب العراق ، مما جعل الشعارات الطائفية تطغي على الانتفاضة .ومما زاد في الطين بلة ما تناقلته بعض وكالات الأنباء عن دخول قوات من حرس الثورة الإيرانية بصحبة قوات بدر التابعة لباقر الحكيم ،على الرغم من عدم وجود ما يؤكد ذلك، مما أثار قلق الولايات المتحدة وحلفائها ، وحكام الخليج وعلى رأسهم السعودية ،حيث انتابهم القلق الشديد من أن تسيطر قوى إسلامية موالية لإيران على الحكم في العراق ،مما قد يسبب مخاطر كبيرة على مصالحهم ، وعلى أنظمة الحكم في دول الخليج .
وهكذا اتخذت الولايات المتحدة قرارها بالوقوف ضد الانتفاضة ،وإجهاضها ،واستمرار النظام الصدامي في حكم العراق .
لقد أخطأت القوى الإسلامية في محاولة الاستئثار بالانتفاضة ،متجاهلة بقية القوى السياسية الوطنية التي انضوت تحت راية ميثاق دمشق ،وتصورت تلك القوى أنها باتت على وشك الوصول الى الحكم ،ولم تدرِ أنها بسلوكها ذاك قد استفزت قوى التحالف الغربي ، وأنظمة الخليج ، ودفعتها الى الوقوف ضد الانتفاضة ، وإجهاضها .
2 ـ توقف زحف القوات الكردستانية نحو مدينتي الموصل ، وصلاح الدين وصولاً الى بغداد ، بعد أن تم لها السيطرة الكاملة على كردستان ، وبدا وكأن المسألة هي مسالة كردستان والأكراد ، وليست مسألة العراق وشعبه وهكذا ففي الوقت الذي كانت قوات الانتفاضة في الجنوب ، والفرات الأوسط تخوض المعارك الباسلة ضد القوات الصدامية ، كانت قوات الانتفاضة في كردستان في حالة الاسترخاء ، واتخذت موقفاً فيه الكثير من قصر النظر السياسي والعسكري ، فصدام حسين لا يمكن أن يترك القوات الكردية تسيطر على كردستان بهذه البساطة .
لقد أتاحت القوات الكردية الفرصة للنظام الصدامي للاستفراد بقوى الانتفاضة في الجنوب والفرات الأوسط ،وتوجيه جهده العسكري لقمعها وتصفيتها ، ومن ثم التحول نحو منطقة كردستان . لقد كان الأجدى بقوات الانتفاضة في كردستان أن تنسق مع قوات الانتفاضة في الجنوب والفرات الأوسط ، والضغط على القوات الصدامية المتواجدة حول الموصل وصلاح الدين ، وليجبرها على القتال على جبهتين ، بدلاً من جبهة واحدة ،مما يخفف العبء عن قوات الانتفاضة في الجنوب .
3 ـ بسبب من ضعف قيادة قوات الانتفاضة ، وسيطرة القوى الإسلامية عليها ، واستبعاد القوى السياسية الأخرى ، وقعت قوات الانتفاضة بأخطاء جسيمة ، فقد اتخذت قيادة الانتفاضة في الجنوب والفرات الأوسط سياسة التصفية الجسدية ضد العناصر البعثية ، وحتى ضد العناصر السنية في بعض الأحيان ، وربما كان للسلطة الصدامية يد في ذلك بغية تشويه الانتفاضة من جهة ، وللحيلولة دون التحاق العناصر السنية ، وخاصة في الجيش بالانتفاضة ،في حين كان المفروض الابتعاد عن مثل هذه السياسة ، ومحاولة جر جانب كبير من العناصر التي ارتبطت بحزب البعث لأسباب عديدة الى جانبها،فمعلوم أن النظام الصدامي عمل بكل الوسائل والسبل على إجبار أبناء الشعب للانخراط في صفوف الحزب ، سواء عن طريق التهديد والوعيد ، أو عن طريق الإغراء المادي ، والمكاسب الوظيفية وغير الوظيفية ، مما جعل الكثيرين من أبناء الشعب ينتمون لحزب البعث ، رغم عدم إيمانهم به وبقيادته وتوجهاته ،ولكن سياسة التصفية الجسدية للعديد من عناصر الحزب ، جعلت البعثيين يقفون ضد الانتفاضة مرغمين . بينما وجدنا القوات الكردستانية سلكت طريقاً آخر ، استطاعت فيه جر جميع العناصر الكردية التي سخرها النظام الصدامي لمحاربة الحركة الكردية لسنين عديدة الى صفوفها ،وبكامل أسلحتها ، مما أسقط في يد النظام الصدامي . وحتى عناصر الجيش العراقي الذين استسلموا للقوات الكردستانية ،فقد جرى نزع سلاحها ،إلا أنها لم تتعرض لأي اعتداء ، غير أن القوات الكردستانية أخطأت في عدم محاولتها الاستفادة من قدرات تلك القوات التي استسلمت ، وألقت سلاحها ،وهي بالتأكيد أعداد كبيرة جداً، وكان الأجدر أن تحاول كسب تلك القوات ،وتعبئها ضد النظام الصدامي ،ولاسيما وأنها كانت على درجة كبيرة من الضخامة ،وتمتلك خبرات قتالية جيدة جداً ،وقادرة على استخدام الأسلحة الحديثة التي كانت بحوزتها ، ولو تم ذلك لكانت قوات الانتفاضة قد أصبحت في موقف أحسن بكثير ،وربما استطاعت جر تشكيلات عسكرية أخرى الى جانبها .
4 ـ إن إهمال ميثاق دمشق ، ومحاولة القوى الإسلامية، قطف ثمار الانتفاضة لنفسها ،ومحاولة إقامة نظام طائفي في العراق ،قد أقلق الطائفة السنية بالغ القلق ،ولاسيما وأن معظم قيادات الجيش هم من الطائفة السنية .
لقد كان الأجدى بتلك القوى أن تتجنب تلك السياسة ،وتؤكد على الشعارات الداعية للوحدة الوطنية ،والنظام الديمقراطي التعددي ،ومحاولة كسب وجر العناصر السنية في صفوف الجيش الى جانبها ، لكن تلك النظرة الضيقة للقوى الإسلامية جعلت جانباً كبيراً من الطائفة السنية تفضل بقاء السلطة الصدامية على قيام نظام حكم شيعي طائفي في العراق .
5 ـ اعتماد قوات الانتفاضة على نظرية الدفاع المحلي ، سواء في المنطقة الكردية أم في المنطقة الجنوبية والفرات الأوسط ،وطبيعي أن هذه النظرية قد كلفت قوى الانتفاضة تضحيات جسيمة في مواجهة جيش منظم،ومجهز بمختلف الأسلحة الثقيلة .
لقد كان الأجدر بقوات الانتفاضة تشكيل قيادة موحدة للانتفاضة ، في عموم العراق وأن تكون هذه القيادة جماعية ، لسائر قوى الانتفاضة ، وأن تلتزم القيادة الموحدة بمقررات مؤتمر دمشق ، وتعمل على تطبيقها .
6 ـ عدم سعي الانتفاضة لإحداث اختراق لقوى السلطة في العاصمة بغداد ،في وقت كانت تلك القوى قد انتابتها صدمة كبرى ، وأصابها الهلع من انهيار القوات العراقية أمام قوات التحالف من جهة ،وانهيار قوى السلطة في معظم المحافظات من جهة أخرى ،مما أفقدها توازنها، ولو استطاعت قوى الانتفاضة التسلل الى بغداد ،والتحمت بالقوى المعارضة للنظام ،وخاصة المتواجدة منها في مدن الثورة والشعلة والحرية والكاظمية ، وغيرها من المناطق الأخرى والتي تمثل طوفاناً شعبياً هائلاً ، لكان اسقط بيد النظام وأدى الى شل قواه ،وفقدانه القدرة على مجابهة الثورة الشعبية العارمة ،وأصابه ما أصاب قوى النظام في معظم المحافظات ، حيث ألقت سلاحها وولت هاربة أمام غضبة الجموع الشعبية الثائرة خلال أيام معدودة .
هذه هي أهم العوامل التي أدت الى إجهاض الانتفاضة ، التي دفع الشعب العراقي خلالها تضحيات جسام ، دون أن يحقق ما كان يصبو إليه في التخلص من النظام الصدامي ، وإقامة البديل الديمقراطي التعددي . وبات على الشعب العراقي أن يتحمل لسنين عديدة أخرى المآسي والويلات من هذا النظام الفاشي ، ومن الحصار الظالم المفروض على الشعب منذُ 2 آب 1990 ، والذي أدى الى الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي لم يعرف الشعب له مثيلاً من قبل .
إن على قوى المعارضة الوطنية أن تتعلم الدروس من تلك الانتفاضة ، وأن تدرك أن تحقيق الانتصار على الدكتاتورية لا يمكن أن يتحقق في ضل الانقسامات بين صفوفها ،واحترابها ، وأن من غير الممكن لأية قوى أن تحقق النصر بمفردها ،مهما امتلكت من القوة والتأييد ،أنها مهمة الجميع ، وبتكاتف جميع القوى واتفاقها على القواسم المشتركة التي تجمعها ، وفي المقدمة منها إقامة النظام الديمقراطي التعددي ،وانتخاب مجلس تأسيسي،وسن دستور ديمقراطي حقيقي يضمن الحقوق والحريات العامة للشعب ، وضمان حرية التنظيم الحزبي والنقابي ، وحرية الصحافة ،وإنشاء محكمة دستورية عليا تسهر على صيانة الدستور من أي تلاعب ،وتكون رقيباً على أعمال الحكومة ،واحترامها لتلك الحقوق والحريات .
وليكن معلوماً لكافة القوى السياسية أن أمامها ، بعد تحقيق الانتصار ،مهمة غاية في الصعوبة تتمثل في إعادة البنية التحتية للاقتصاد العراقي المحطم ، والبنية الاجتماعية الممزقة ،والتي أنهكها الحصار والحروب الكارثية للنظام ،والتي استمرت أكثر من عشرين عاماً ،ومعالجة مسألة التعويضات المفروضة على العراق ، والعمل على إعادة المهجرين والمهاجرين في المنافي ، واستعادت الآلاف من الكوادر العلمية التي اضطرت الى اللجوء الى دول الغرب هرباً من بطش النظام ، ومن الوضع الاقتصادي الصعب ،والعمل على تجاوز التخلف الذي سببه الحصار طيلة عشر سنوات عجاف لم يشهد لها الشعب مثيلاً من قبل ، ولاشك أن هذه المهمة شاقة جداً وتتطلب تكاتف كل القوى الوطنية دون استثناء .
عندما قامت الانتفاضة المجيدة ،ضد النظام الذي جلب الكوارث لشعبنا ،في الأول من آذار 1991،كانت كل الظروف الموضوعية ناضجة لانتشارها في كافة المدن العراقية ،بعد سنوات طوال من الحكم الدكتاتوري الاستبدادي ، والجرائم التي ارتكبها هذا النظام بحق الشعب العراقي ،بكل فئاته وقومياته وطوائفه .
لقد أنتشر لهيب الثورة بأسرع مما كان يتصوره الكثير من الناس ، ليغطي العراق من أقصاه الى أقصاه ،ومما زاد في اندفاع الجماهير الشعبية للمشاركة في الانتفاضة هو اشتراك عناصر واسعة من الجيش في إشعال لهيبها ،وانضمام أعداد غفيرة من العسكريين الى صفوف الانتفاضة ، مما سهل كسر حاجز الخوف الذي أشاعه إرهاب النظام لسنين طويلة ،وظهر لأول مرة أن الجهاز الذي اعتمد عليه صدام حسين في حماية نظامه،قد بدأ بالتداعي ، بعد الهزائم التي ألحقها النظام بالجيش العراقي ، في معركة غير متكافئة مع الولايات المتحدة وحلفائها ، وتسبب ذلك في إذلال الجيش العراقي الباسل .
لقد بان للشعب العراقي أن النظام الصدامي بات قاب قوسين أو أدنى من السقوط ،ولم يشك أحد في نهاية هذا النظام الذي ارتكب الجرائم البشعة بحق الشعب والوطن .
لكن الأمور تغيرت بشكل مفاجئ ، بعد أن وضعت الولايات المتحدة وحلفائها ثقلهم الى جانب النظام الصدامي ، ومهدوا السبيل لقوات الحرس الجمهوري لاستعادة المبادرة ، وسهلوا لقواته المحاصرة جنوب الناصرية ، للعبور ومهاجمة المدن المحررة ، واستعادة السيطرة عليها ، مستخدمة شتى أنواع الأسلحة ، من دبابات ، ومدفعية ، وصواريخ ، وطائرات مروحية . وهكذا بدأ الحلم الجميل بإسقاط النظام يتلاشى شيئاً فشيئاً فلماذا حدث ذلك وما هي الأسباب التي أدت الى فشل الانتفاضة ؟
إن أهم أسباب فشل الانتفاضة :
1 ـ ضعف قيادات الانتفاضة ،وفشلها في استثمارها ، وتوجيهها ،وبُعد قيادات القوى السياسية المعارضة عن ساحة المعركة ، وتواجدها خارج البلاد ،وأنشغالها في خلافاتها السياسية مع بعضها البعض ،مما جعل مواقفها دون مستوى الأحداث التي ألمّت بالعراق وشعبه ، ورغم أن النظام الصدامي قد اضطهد كل القوى ، ونكل بها ، دون استثناء ، إلا أن ذلك الاضطهاد والتنكيل لم يحفز تلك القوى لتجميع قواها ، وتعبئتها حول قواسم مشتركة تناضل جميعها من أجلها ، وفي المقدمة من ذلك إسقاط النظام الدكتاتوري ،وإقامة البديل الديمقراطي التعددي ،الذي يضمن الحريات العامة للشعب ، ويقيم المؤسسات الدستورية في البلاد .
لقد استمرت تلك القوى في تباعدها عن بعضها ، وحتى احترابها،الى وقت متأخر جداً مما أفقد الانتفاضة عاملاً مهماً جداً من عوامل الانتصار .
لقد كان الأجدى بقيادات المعارضة التي اجتمعت في مؤتمر بيروت أن تتوجه الى المناطق المحررة من العراق ، لتنشئ قيادة ميدانية مشتركة لكافة القوى والأحزاب السياسية المنضوية تحت لواء ميثاق دمشق ، وتوجيه الانتفاضة نحو تحقيق المبادئ التي أقرها الميثاق ، فيما يخص إسقاط النظام الصدامي ، وإقامة النظام الديمقراطي التعددي والعمل على تحقيق الأهداف العامة التي نص عليها الميثاق .
إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث ، وتُركت الانتفاضة لتوجيهات بعض القيادات السلامية ، وبشكل خاص قيادة السيد[ محمد باقر الحكيم ] ، الذي دخلت قواته المسماة [ قوات بدر ] من إيران الى جنوب العراق ، مما جعل الشعارات الطائفية تطغي على الانتفاضة .ومما زاد في الطين بلة ما تناقلته بعض وكالات الأنباء عن دخول قوات من حرس الثورة الإيرانية بصحبة قوات بدر التابعة لباقر الحكيم ،على الرغم من عدم وجود ما يؤكد ذلك، مما أثار قلق الولايات المتحدة وحلفائها ، وحكام الخليج وعلى رأسهم السعودية ،حيث انتابهم القلق الشديد من أن تسيطر قوى إسلامية موالية لإيران على الحكم في العراق ،مما قد يسبب مخاطر كبيرة على مصالحهم ، وعلى أنظمة الحكم في دول الخليج .
وهكذا اتخذت الولايات المتحدة قرارها بالوقوف ضد الانتفاضة ،وإجهاضها ،واستمرار النظام الصدامي في حكم العراق .
لقد أخطأت القوى الإسلامية في محاولة الاستئثار بالانتفاضة ،متجاهلة بقية القوى السياسية الوطنية التي انضوت تحت راية ميثاق دمشق ،وتصورت تلك القوى أنها باتت على وشك الوصول الى الحكم ،ولم تدرِ أنها بسلوكها ذاك قد استفزت قوى التحالف الغربي ، وأنظمة الخليج ، ودفعتها الى الوقوف ضد الانتفاضة ، وإجهاضها .
2 ـ توقف زحف القوات الكردستانية نحو مدينتي الموصل ، وصلاح الدين وصولاً الى بغداد ، بعد أن تم لها السيطرة الكاملة على كردستان ، وبدا وكأن المسألة هي مسالة كردستان والأكراد ، وليست مسألة العراق وشعبه وهكذا ففي الوقت الذي كانت قوات الانتفاضة في الجنوب ، والفرات الأوسط تخوض المعارك الباسلة ضد القوات الصدامية ، كانت قوات الانتفاضة في كردستان في حالة الاسترخاء ، واتخذت موقفاً فيه الكثير من قصر النظر السياسي والعسكري ، فصدام حسين لا يمكن أن يترك القوات الكردية تسيطر على كردستان بهذه البساطة .
لقد أتاحت القوات الكردية الفرصة للنظام الصدامي للاستفراد بقوى الانتفاضة في الجنوب والفرات الأوسط ،وتوجيه جهده العسكري لقمعها وتصفيتها ، ومن ثم التحول نحو منطقة كردستان . لقد كان الأجدى بقوات الانتفاضة في كردستان أن تنسق مع قوات الانتفاضة في الجنوب والفرات الأوسط ، والضغط على القوات الصدامية المتواجدة حول الموصل وصلاح الدين ، وليجبرها على القتال على جبهتين ، بدلاً من جبهة واحدة ،مما يخفف العبء عن قوات الانتفاضة في الجنوب .
3 ـ بسبب من ضعف قيادة قوات الانتفاضة ، وسيطرة القوى الإسلامية عليها ، واستبعاد القوى السياسية الأخرى ، وقعت قوات الانتفاضة بأخطاء جسيمة ، فقد اتخذت قيادة الانتفاضة في الجنوب والفرات الأوسط سياسة التصفية الجسدية ضد العناصر البعثية ، وحتى ضد العناصر السنية في بعض الأحيان ، وربما كان للسلطة الصدامية يد في ذلك بغية تشويه الانتفاضة من جهة ، وللحيلولة دون التحاق العناصر السنية ، وخاصة في الجيش بالانتفاضة ،في حين كان المفروض الابتعاد عن مثل هذه السياسة ، ومحاولة جر جانب كبير من العناصر التي ارتبطت بحزب البعث لأسباب عديدة الى جانبها،فمعلوم أن النظام الصدامي عمل بكل الوسائل والسبل على إجبار أبناء الشعب للانخراط في صفوف الحزب ، سواء عن طريق التهديد والوعيد ، أو عن طريق الإغراء المادي ، والمكاسب الوظيفية وغير الوظيفية ، مما جعل الكثيرين من أبناء الشعب ينتمون لحزب البعث ، رغم عدم إيمانهم به وبقيادته وتوجهاته ،ولكن سياسة التصفية الجسدية للعديد من عناصر الحزب ، جعلت البعثيين يقفون ضد الانتفاضة مرغمين . بينما وجدنا القوات الكردستانية سلكت طريقاً آخر ، استطاعت فيه جر جميع العناصر الكردية التي سخرها النظام الصدامي لمحاربة الحركة الكردية لسنين عديدة الى صفوفها ،وبكامل أسلحتها ، مما أسقط في يد النظام الصدامي . وحتى عناصر الجيش العراقي الذين استسلموا للقوات الكردستانية ،فقد جرى نزع سلاحها ،إلا أنها لم تتعرض لأي اعتداء ، غير أن القوات الكردستانية أخطأت في عدم محاولتها الاستفادة من قدرات تلك القوات التي استسلمت ، وألقت سلاحها ،وهي بالتأكيد أعداد كبيرة جداً، وكان الأجدر أن تحاول كسب تلك القوات ،وتعبئها ضد النظام الصدامي ،ولاسيما وأنها كانت على درجة كبيرة من الضخامة ،وتمتلك خبرات قتالية جيدة جداً ،وقادرة على استخدام الأسلحة الحديثة التي كانت بحوزتها ، ولو تم ذلك لكانت قوات الانتفاضة قد أصبحت في موقف أحسن بكثير ،وربما استطاعت جر تشكيلات عسكرية أخرى الى جانبها .
4 ـ إن إهمال ميثاق دمشق ، ومحاولة القوى الإسلامية، قطف ثمار الانتفاضة لنفسها ،ومحاولة إقامة نظام طائفي في العراق ،قد أقلق الطائفة السنية بالغ القلق ،ولاسيما وأن معظم قيادات الجيش هم من الطائفة السنية .
لقد كان الأجدى بتلك القوى أن تتجنب تلك السياسة ،وتؤكد على الشعارات الداعية للوحدة الوطنية ،والنظام الديمقراطي التعددي ،ومحاولة كسب وجر العناصر السنية في صفوف الجيش الى جانبها ، لكن تلك النظرة الضيقة للقوى الإسلامية جعلت جانباً كبيراً من الطائفة السنية تفضل بقاء السلطة الصدامية على قيام نظام حكم شيعي طائفي في العراق .
5 ـ اعتماد قوات الانتفاضة على نظرية الدفاع المحلي ، سواء في المنطقة الكردية أم في المنطقة الجنوبية والفرات الأوسط ،وطبيعي أن هذه النظرية قد كلفت قوى الانتفاضة تضحيات جسيمة في مواجهة جيش منظم،ومجهز بمختلف الأسلحة الثقيلة .
لقد كان الأجدر بقوات الانتفاضة تشكيل قيادة موحدة للانتفاضة ، في عموم العراق وأن تكون هذه القيادة جماعية ، لسائر قوى الانتفاضة ، وأن تلتزم القيادة الموحدة بمقررات مؤتمر دمشق ، وتعمل على تطبيقها .
6 ـ عدم سعي الانتفاضة لإحداث اختراق لقوى السلطة في العاصمة بغداد ،في وقت كانت تلك القوى قد انتابتها صدمة كبرى ، وأصابها الهلع من انهيار القوات العراقية أمام قوات التحالف من جهة ،وانهيار قوى السلطة في معظم المحافظات من جهة أخرى ،مما أفقدها توازنها، ولو استطاعت قوى الانتفاضة التسلل الى بغداد ،والتحمت بالقوى المعارضة للنظام ،وخاصة المتواجدة منها في مدن الثورة والشعلة والحرية والكاظمية ، وغيرها من المناطق الأخرى والتي تمثل طوفاناً شعبياً هائلاً ، لكان اسقط بيد النظام وأدى الى شل قواه ،وفقدانه القدرة على مجابهة الثورة الشعبية العارمة ،وأصابه ما أصاب قوى النظام في معظم المحافظات ، حيث ألقت سلاحها وولت هاربة أمام غضبة الجموع الشعبية الثائرة خلال أيام معدودة .
هذه هي أهم العوامل التي أدت الى إجهاض الانتفاضة ، التي دفع الشعب العراقي خلالها تضحيات جسام ، دون أن يحقق ما كان يصبو إليه في التخلص من النظام الصدامي ، وإقامة البديل الديمقراطي التعددي . وبات على الشعب العراقي أن يتحمل لسنين عديدة أخرى المآسي والويلات من هذا النظام الفاشي ، ومن الحصار الظالم المفروض على الشعب منذُ 2 آب 1990 ، والذي أدى الى الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي لم يعرف الشعب له مثيلاً من قبل .
إن على قوى المعارضة الوطنية أن تتعلم الدروس من تلك الانتفاضة ، وأن تدرك أن تحقيق الانتصار على الدكتاتورية لا يمكن أن يتحقق في ضل الانقسامات بين صفوفها ،واحترابها ، وأن من غير الممكن لأية قوى أن تحقق النصر بمفردها ،مهما امتلكت من القوة والتأييد ،أنها مهمة الجميع ، وبتكاتف جميع القوى واتفاقها على القواسم المشتركة التي تجمعها ، وفي المقدمة منها إقامة النظام الديمقراطي التعددي ،وانتخاب مجلس تأسيسي،وسن دستور ديمقراطي حقيقي يضمن الحقوق والحريات العامة للشعب ، وضمان حرية التنظيم الحزبي والنقابي ، وحرية الصحافة ،وإنشاء محكمة دستورية عليا تسهر على صيانة الدستور من أي تلاعب ،وتكون رقيباً على أعمال الحكومة ،واحترامها لتلك الحقوق والحريات .
وليكن معلوماً لكافة القوى السياسية أن أمامها ، بعد تحقيق الانتصار ،مهمة غاية في الصعوبة تتمثل في إعادة البنية التحتية للاقتصاد العراقي المحطم ، والبنية الاجتماعية الممزقة ،والتي أنهكها الحصار والحروب الكارثية للنظام ،والتي استمرت أكثر من عشرين عاماً ،ومعالجة مسألة التعويضات المفروضة على العراق ، والعمل على إعادة المهجرين والمهاجرين في المنافي ، واستعادت الآلاف من الكوادر العلمية التي اضطرت الى اللجوء الى دول الغرب هرباً من بطش النظام ، ومن الوضع الاقتصادي الصعب ،والعمل على تجاوز التخلف الذي سببه الحصار طيلة عشر سنوات عجاف لم يشهد لها الشعب مثيلاً من قبل ، ولاشك أن هذه المهمة شاقة جداً وتتطلب تكاتف كل القوى الوطنية دون استثناء .
التسميات:
بحوث تاريخية
بحوث تاريخية
0 التعليقات: