عدد الزائرين للموقع

Web Hit Counter

المواضيع ألعشرة الأخيرة

معالم وشخصيات تأريخية

حقيبة الكـتب

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

احصائية الموقع

المتواجدين :

نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى - كتاب في حلقات (13)


حامد الحمداني  
12/9/2008

تدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد

أولاً ـ مذكرات الأحزاب الوطنية المرفوعة للوصي:
تدهورت الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، بسبب سوء سياسات الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم، ولجوئها إلى انتهاك حقوق وحريات الشعب التي نص عليها الدستور، والاستهتار بمصالح الوطن، ووصول تلك الأحوال إلى مرحلة أصبح السكوت عنها أمراً مستحيلاً.
ونتيجة لتلك الأوضاع أصيبت الأحزاب السياسية الوطنية باليأس من تلك الحكومات وسياساتها الخطرة، فلم تجد بداً من مخاطبة الوصي [عبدالإله] مباشرة، حيث رفعت إليه المذكرات شرحت فيها بإسهاب أحوال البلاد، وما وصلت إليه من تردي ينذر بتطورات خطيرة إذا لم يتم معالجتها بسرعة.
لقد جاءت المذكرات التي بعث بها حزب الاستقلال، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الجبهة الشعبية، متشابهة في مضمونها من حيث شرحها لظروف البلاد المتردية، وانتشار الفساد، وسلب الحريات العامة وانتهاك الدستور، وتزييف الانتخابات، وغيرها من الأمور الأخرى.
كما جاءت بمطالب متشابهة أيضا، ولذلك فسوف اكتفي بمذكرة الحزب الوطني الديمقراطي التي رفعها السيد[ كامل الجاد رجي] إلى الوصي عبد الإله، والتي اتسمت بالصراحة والجرأة في عرض التدهور الحاصل في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد وفيما يلي نصها :
صاحب السمو الملكي الأمير عبد الإله: يا صاحب السمو
ليست الغاية من تقديم هذه المذكرة إلى سموكم هي مجرد شكوى من الأوضاع السيئة القائمة في العراق واستنكارها، إذ طالما سمعنا أن سموكم يبدي شكواه أيضاً في مختلف المناسبات، ولذلك نتقدم بمطالب نأمل أن يساعد تحقيقها إلى حد كبير في إنقاذ البلاد من الوضع الخطير الذي وصلت إليه .
ونحن عندما نخاطبكم بصورة مباشرة بها الشأن، لم يغب عن بالنا أن القانون الأساسي العراقي، على ما فيه من مآخذ، قد اعتبر رئيس الدولة، أو من يقوم مقامه، غير مسؤول، وأنه حمل الوزارة جميع مسؤوليات الحكم في الدولة، وأنه فرق بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، لكن عدم التقيد بالقانون المشار إليه في ناحية حقوق الملك، وواجباته في الحدود المعينة لها كان سبباً مهماً لخرق سائر مواده من قبل السلطة التنفيذية، وجعله معطلاً من حيث الواقع، ولذلك لا يسعنا والحالة هذه أن نتجاهل واقع الحال الذي جعل سموكم مسؤولاً عن هذا الوضع الشاذ.
ونستطيع أن نؤكد أن التردي في الحالة بدأ يأخذ شكلاً واضحاً منذُ أن تم إخضاع البلاد للسلطات الإنكليزية عقب حركة 1941، إذ رافق الاحتلال البريطاني الثاني دور إرهابي رُكز فيه النفوذ البريطاني والحكم العرفي،والإدارة البوليسية، وظهرت فيه الروح الانتقامية بأجلى مظاهرها، سواء في الاعتقالات الإدارية، أو المحاكمات التي جرت على يد السلطات العسكرية العراقية.
وقد تحمل الشعب العراقي طيلة مدة الحرب ما عانته البلاد من عبث الإدارة العسكرية البريطانية، وتدخلاتها السافرة بشؤونها، وتوجيهها جميع موارد البلاد وإنتاجها لمصلحة المجهود الحربي البريطاني، كما عانى من نتائج التضخم النقدي ما لم يعانيه بلد آخر، فكانت أكثرية الشعب لا تسد رمقها بسبب الغلاء الفاحش، بينما تُرك الحبل على الغارب لفئة من الاستغلاليين والاحتكاريين، ورجال الحكم المستسلمين والموالين للسلطات البريطانية، والمدافعين عن ذلك الوضع السيئ لتثرى ثراءً فاحشاً على حساب تجويع الأكثرية الساحقة من الشعب.
لقد عانى الشعب كل هذه المصاعب، وضحى بحرياته العامة والخاصة وتحمل الجوع والذل، وصبر على مضض، على أمل أن يحيا في أعوام ما بعد الحرب حياة سعيدة، تستعيد فيها البلاد استقلالها، وتضمن حرية أفرادها، ويوفر لها قوتها، وتختار الأكثرية فيها الطريقة التي توافقها في الحكم، والهيئة التي تدير شؤونها إدارة وطنية ديمقراطية منبثقة عن مجالس نيابية منتخبة بمحض إرادتها.
ولكن الذي يؤسف له أن الوضع استمر على ما كان عليه بعد انتهاء الحرب، على الرغم من ازدياد الوعي الشعبي، بل أخذت تنمو بذور الفساد بمقياس واسع، فكوفحت الأحزاب الناشئة وصحافتها أشد المكافحة واُتخذ من القضاء وسيلة لمحاربتها ومحاربة صحافتها، وفقد القضاء استقلاله وصيانته بنتيجة مداخلات السلطة التنفيذية المستمرة في أعماله، وأخذ أسلوب الحكم يتحول إلى نظام بوليسي أكثر فأكثر، يهدر الحريات العامة والخاصة، وخلق جو إرهابي أرادت به الفئة الحاكمة القضاء على كل مقاومة شعبية، وسارت الفئة الحاكمة على نفس أسلوبها القديم في الانتخابات العامة بالرغم من أنها تظاهرت بالإصلاح في هذا الشأن بسن قانون جديد للانتخابات، وقد شهدت انتخابات عامي 1947 و 1948 مداخلات سافرة من غير تحفظ، فقد حدث أن استُدعي المتصرفون إلى العاصمة لمقابلة رئيس الديوان الملكي، والمسؤولين من الوزراء، وعادوا
إلى أماكن عملهم بعد أن زُودوا بتعليمات مشددة لتعيين النواب.
وقد نُفذت تلك التعليمات، فكان من الطبيعي أن تضيع مسؤولية الوزارات أمام تلك المجالس المزيفة، غير المنبثقة عن إرادة الأمة فتركزت السلطة، من دون اعتبار لمبدأ فصل السلطات، بيد الحكومة التي راحت تطلق لنفسها العنان في القيام بما تريد به من أعمال مخالفة للقانون الأساسي، والقوانين والأنظمة، ومخلة بالأسلوب الديمقراطي كل الإخلال، فأصبحت المجالس النيابية هي الخاضعة للسلطة التنفيذية وأصبحت الوزارات تعلق بقاءها في الحكم على إرادة البلاط ومشيئته، فاستسلمت له كل الاستسلام، وأصبح والحالة هذه مرجعاً حقيقياً في كل صغيرة وكبيرة، حتى تعين الموظفين، وإحالتهم على التقاعد، وما شابه ذلك من الأمور التي يجب أن تكون بعيدة عن هذه المداخلات.
ونحن إذ نوجه هذه المذكرة إلى سموكم لا نود أن يُفهم أننا نطالب بأن يتدخل سموكم في شؤون الدولة خلافاً للدستور، وإنما الذي نبغيه هو وضع حد لهذه المداخلات، وذلك لصيانة الدستور، وإزالة آثار تلك المداخلات.
ونعتقد بأن الإصلاح الذي نطالب به لتغير الأوضاع السيئة القائمة التي بلغت حداً لا يطاق من الفساد، يجب أن يبدأ بتعديل القانون الأساسي الحالي الذي جرى تعديله في ظروف شاذة، يوم كانت البلاد من أقصاها إلى أقصاها محتلة بالجيوش البريطانية، وخاضعة للأحكام العرفية، والسجون والمعتقلات ملئ بالمواطنين لأسباب كيفية، وذلك على وجه الخصوص يضمن في نصوصه سيادة الشعب ضماناً تاما ًبحيث لا يدع أي مجال للانتقاص منها،عن طريق التأويل أو التفسير، ويقف بكل سلطة من سلطات الدولة عند الحد الذي يجب أن تقف عنده، وفق مبادئ حكومة دستورية نيابية ديمقراطية مقيدة بالقانون، كما جاء في البيعة التاريخية التي أقرها مجلس الوزراء العراقي بتاريخ 11 تموز 1921،وأعلنها للناس،على أن يشمل التعديل المطلوب النص الذي كان قد ادخل على القانون الأساسي عام 1942، والذي يقضي بمنح حقوقاً أكثر من ذي قبل،كحق إقالة الوزارة ، وجعل قرارات مجلس الوزراء مرهونة بموافقته عليها، وما إلى ذلك من أمور منافية كل المنافاة للأسلوب الديمقراطي، وأن يتضمن التعديل منع رئيس الدولة، وكل ذي سلطة عامة في الدولة منعاً باتاً من كل عمل مالي أو اقتصادي يمكن أن يؤدي إلى استغلال النفوذ. وفي اعتقادنا أن التعديل المطلوب يجب أن يكون تمهيداً لإعادة الحياة النيابية على أسس سليمة، وفي مقدمتها الأخذ بمبدأ الانتخاب المباشر عن طريق تعديل قانون الانتخاب الحالي على هذا الأساس، هذا القانون الذي ليس له في الأقطار الديمقراطية ما يماثله من حيث رجعيته، والذي أضيفت إليه أواخر عهد السيد نوري السعيد الأخيرة قيود جديدة على حرية الناخبين، مما يتطلب تبديله لتأمين حق المواطنين في الانتخاب المباشر، وإجراء الانتخابات المقبلة على أساس إحصاء رسمي،على أن يُلغى منه كل قيد يعرقل وصول أي مواطن إلى المجلس مهما تكن حالته الاجتماعية أو المالية، وان تقوم بإجراء الانتخابات، بعد رفع تلك القيود من هذا القانون، وجعله ملائماً للأسس الديمقراطية، وزارة يطمئن إليها الشعب كل الاطمئنان، لتكون الوزارات التي تتولى الحكم بعد ذلك وزارات منبثقة من مجلس نيابي حقيقي يمثل إرادة الشعب أصدق تمثيل، وبذلك يمكن أن تكون الوزارات مسؤولة أمامه فقط ، فتتولى السير بالبلاد نحو عهد جديد من الحكم الديمقراطي الصحيح ليستعيد الشعب طمأنينته المفقودة، وتتوفر لديه الثقة بأسلوب الحكم الذي ينشده.
وبعد فإن الشعب يا صاحب السمو بحاجة إلى إزالة القوانين الرجعية التي حرمت عليه ممارسة حريته، وجعلته يعيش في ظل نظام بوليسي يحصي عليه حركاته وأنفاسه، ويأخذ أبناءه بالشبهات، ويزج بهم في المعتقلات والسجون لمجرد رأي أبدوه، وإن البلاد بحاجة ماسة إلى قوانين عامة تشمل جميع أبناء الشعب، فكما تكون الجرائم موحدة بين المدن والمناطق الريفية، يجب أن يكون العقاب كذلك واحداً .
كما أن البلاد بحاجة ماسة إلى تشريع يضمن استقلال القضاء الذي أصبح في وضع لا يستطيع معه المحافظة على كيانه وحرمته واستقلاله، وإلى مجلس دولة تُعطى له جميع الصلاحيات كاملة غير منقوصة لحماية حقوق المواطنين من عبث السلطة الإجرائية، وتصرفاتها الكيفية، إلى جانب إطلاق الحريات السياسية، ومنح العمال وغيرهم من أصحاب المهن حرية تأليف النقابات، بحيث لا تستطيع السلطات الإدارية والبوليسية عرقلة أعمال هذه النقابات، والقضاء عليها بحجج واهية، وإعلان العفو العام عن المحكومين السياسيين الذين هم في الواقع ضحايا المجالس العرفية العسكرية، أو المحاكمات غير الأصولية، وإلغاء جميع النصوص التي تتنافى ومبادئ الحكم الديمقراطي، حيثما وجدت في القوانين، واستبعاد فكرة تعديل قانون العقوبات الذي تلوّح به السلطات كسيف مسلط على كل حرية من حريات الرأي، والعمل السياسي، وتطهير جهاز الدولة من المرتشين والفاسدين، والضرب على أيدي المستغلين والمحتكرين، وذلك بتشريع خاص، بحيث لا يفلت من العقاب كل مجرم سابق أو لاحق.
والشعب العراقي الذي ضاق ذرعاً بحالته الاقتصادية السيئة، من حيث تفشي الفقر والبطالة، وقلة الأجور، يريدها إصلاحاً جذرياً لهذه الحالة بإلغاء الإقطاع، وإزالة كل قانون أو نظام من شأنه تثبيته، وتحديد الملكية الزراعية بحد أعلى ، وتوزيع الأراضي المتملكة على الزراع الحقيقيين، وزيادة حصة الفلاح من الحاصل، وتخفيف عبء الضريبة عن المكلفين غير القادرين على دفعها، وفرض ضريبة تصاعدية على أصحاب الدخل الكبير، زراعياً كان أو غير زراعي، وتقليص الضرائب غير المباشرة على المستهلكين، وتحرير الاقتصاد الوطني من الاستغلال والسيطرة الأجنبية، وتأميم المشاريع التي تتصل بالخدمات العامة والقضاء على الاحتكار الأجنبي في العراق، وتشجيع استثمار رأس المال الوطني في الصناعة الحديثة، والمشاريع الاقتصادية، ومنع استغلال النفوذ الفردي على حساب الصالح العام .
والشعب العراقي الذي يريد جلاء كل قوة أجنبية عن بلاده، يريد التحرر من معاهدة 1930 الجائرة التي قيدت له استقلاله وسيادته الوطنية، وهو كذلك يرفض كل نوع من أنواع الدفاع المشترك، لأنه يرى في هذا المشروع الاستعماري الخطر كل الخطر على كيانه وسلامته.
والشعب العراقي الذي ينشد السلام، يريد أن يعلن حياده تجاه التكتلات الدولية التي لا منفعة له في التورط فيها،لأن كل ارتباط للعراق بالدول الإمبريالية لا يعود إليه بغير الكوارث الجسيمة، ويعرض حياة أبنائه للهلاك،ومرافقه للخراب والدمار.
ولنا الشرف يا صاحب السمو أن نكون قد عرضنا في هذه المذكرة خلاصة ما يشكو منه الشعب العراقي، وعبّرنا عن ما يرغب فيه من حلول لمشاكله، وما يتوق إلى تحقيقه من آمال، وتفضلوا يا صاحب السمو بقبول خاص احترامنا.
(1)
                       بغداد في 8 صفر 1372 هجرية المصادف لليوم 28 تشرين الأول 1952
                                                       كامل الجادرجي

وهكذا جاءت المذكرة تعبيراً صادقاً ودقيقاً عن أوضاع الشعب العراقي ومعاناته، ووضعت اليد على الداء، وحددت له الدواء، من دون أي مجاملة لرئيس الدولة أو الحكومة، واستقبلها الشعب بالتأييد الحازم والفعال، فقد كانت قد عبرت حقاً وصدقاً عن ضميره وأحاسيسه، وآماله في الحياة الحرة الكريمة في ظل الاستقلال الحقيقي، وبعيداً عن الهيمنة الإمبريالية.
وبدلاً من أن يقوم الوصي عبد الإله بدراسة المذكرة المرفوعة له، والعمل على الاستجابة لمطالب الشعب التي تضمنتها المذكرات، ومعالجة شكاوى الشعب، استدعى على الفور السيدان [ نوري السعيد] و[مصطفى العمري ] وتباحث معهما في الرد الذي جاء سريعاً وانفعالياً دافع فيه عن نفسه، وعن حكوماته وسياساتها المعادية لمصالح الشعب والوطن، وجاء ذلك الرد الذي بعث به رئيس الديوان الملكي [ احمد مختار بابان ] ، بناء على توجيهات الوصي إلى قادة الأحزاب الوطنية الثلاث،في 28 تشرين الأول 1952، والذي تميز بالانفعال.
لقد حاول الوصي تبرئة نفسه من التدخلات اللا دستورية التي مارسها منذُ توليه الوصاية على العرش في انتخابات المجالس النيابية، وسياسات الوزارات المتعاقبة على الحكم، وتعديله للدستور بحيث خول نفسه حق إقالة الوزارة، والتدخل في كل صغيرة وكبيرة، إضافة إلى ارتمائه في أحضان المستعمرين البريطانيين، والرضوخ لمشيئة السفارة البريطانية في تشكيل الوزارات وتحديد سياساتها. (2)
لكن الوصي كان يشعر بقلق شديد من أسلوب المذكرات التي رفعتها الأحزاب السياسية، والتي كانت تنم عن وجود استياء شعبي عام في البلاد وكان قلق الوصي عبد الإله ناشئاَ أيضاً من خوفه من وقوع انقلاب عسكري في البلاد، كما حدث في سوريا ومصر، ولذلك فقد سارع إلى حل مجلس النواب في 27 تشرين الأول 1952، تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة، من دون أن يلتفت إلى المطالب الشعبية، ومطالب الأحزاب السياسية المتمثلة بتعديل قانون الانتخاب وجعله مباشراً ـ أي على درجة واحدة ـ منعاً للتزوير و شراء ذمم المنتخبين الثانويين .
(3)

ثانياً: الأحزاب السياسية تقاطع الانتخابات :
لم تقتنع أحزاب المعارضة الوطنية بالخطوة التي أقدم عليها الوصي لحله البرلمان تمهيدً لإجراء انتخابات جديدة، طالما أنها سوف تجرى بنفس الأسلوب السابق، وبموجب القانون المعمول به، ورأت أن لا فائدة ترجى من اشتراكها في الانتخابات التي بات معروفاً سلفاً من الذي سيفوز فيها من رجال السلطة والسفارة البريطانية، وأعلنت أنها سوف تقاطع الانتخابات.
(4)
وجاء قرار الأحزاب الوطنية المعارضة ليزيد من قلق السلطة والبلاط في اندلاع وثبة شعبية جديدة لا أحد يعرف مداها إن هي حدثت، ولذلك فقد تراجعت الحكومة عن موقفها، وسارعت إلى إصدار بيان رسمي 16 تشرين الثاني 1952إلى الشعب، تعلن فيه أنها في صدد تشكيل لجنة من كبار القانونيين، وبمشاركة الأحزاب السياسية، لتعديل قانون الانتخاب وجعله [انتخاباً مباشراً ]،وأنها سوف تقدم مشروع القانون إلى مجلس الأمة الذي سيجري انتخابه، وأن الحكومة سوف تقف على الحياد في تلك الانتخابات !!. كما أعلنت الحكومة في بيانها أنها تدرك ضرورة أجراء الإصلاحات في البلاد، وقامت الحكومة بإبلاغ الأحزاب السياسية بخطتها،
ودعت ممثليها للمشاركة في اللجنة المزمع تأليفها لتعديل قانون الانتخاب.
لكن الأحزاب الوطنية لم تنطلِ عليها أحابيل الحكومة لتمرير الانتخابات والمجيء بمجلس للنواب كما تريد، وعليه رفضت دعوة الحكومة وطالبتها بإصدار مرسوم بتعديل قانون الانتخاب قبل إجراؤها، إن هي جادة في مواقفها.
وبسبب تأزم الوضع من جديد طلب رئيس الوزراء[مصطفى العمري] من الوصي عبد الإله أن يلتقي بقادة الأحزاب والشخصيات السياسية في البلاد للتداول في سبل الخروج من الأزمة.
(5)
مانع الوصي في بادئ الأمر، لكنه عاد وتراجع عن موقفه بعد أن أوضح له رئيس الوزراء خطورة الوضع داخل البلاد ، وما جرى ويجري من أحداث في إيران وسوريا ومصر.
وهكذا بادر الوصي في 28 تشرين الأول إلى دعوة قادة الأحزاب السادة [كامل الجادرجي ] و[محمد مهدي كبة] و[طه الهاشمي ] و[نوري السعيد] و[صالح جبر] وشملت الدعوة إضافة إلى رئيس الوزراء [مصطفى العمري] كل من السادة [جميل المدفعي ] و[علي جودت الأيوبي ] و[محمد الصدر] و[توفيق السويدي ] و[أرشد العمري ] و[حكمت سليمان ]. (6)
بدأ الوصي حديثه مع الحاضرين منزهاً نفسه من أي استغلال لمركزه على قمة السلطة، مدعياً العفة والنزاهة، والحرص على العراق وشعبه!، مذكراً بأمجاد الملك حسين بن علي. ثم طلب بعد الانتهاء من كلمته أن يسمع أراء الحاضرين في الاجتماع، وخاصة قادة الأحزاب السياسية.
لكن السيد [طه الهاشمي] أجابه بالنيابة عن [كامل الجادرجي] و[محمد مهدي كبه] على الفور أنهم قد قدموا كل ما عندهم في المذكرات التي رفعوها لسموه، وأنهم يودون سماع جواب سموه عليها.
(7)
كما تحدث علي جودت الأيوبي حول الأوضاع المتدهورة في البلاد ومطالب الأحزاب السياسية الوطنية، وتطور الحديث إلى سجال بين الزمرة الحاكمة وقادة الأحزاب المعارضة.
أثارت صراحة السيد طه الهاشمي الوصي عبد الإله، وجعلته يفقد سيطرته على أعصابه، حيث تطاول على طه الهاشمي، واتهمه مرات عديدة [بالكذب ]!! .
انفعل الهاشمي من تصرف الوصي، وهمّ بالخروج من الاجتماع، لكن الوصي صرخ في وجهه قائلاً[ اجلس] ورد عليه الهاشمي قائلاً [أني شريف،إني شريف] ثم غادر قاعة الاجتماع، وأعقبه الأستاذ كامل الجادرجي وغادر الاجتماع احتجاجاً على إهانة الوصي لطه الهاشمي وتضامناً معه، وانتهى مؤتمر البلاط إلى الفشل الذريع، وغادر الجميع بعد ذلك قاعة الاجتماع .
(8)
حاول رئيس الوزراء أن يهدئ الأجواء التي باتت تهدد بالانفجار، واتصل بالسيدين طه الهاشمي، وكامل الجادرجي، واعتذر لهم بالنيابة عن الحكومة، وأبدى أسفه إلى ما آل إليه مؤتمر البلاط.
كما قام كل من رئيس الديوان الملكي [ احمد مختار بابان ] و رئيس التشريفات [تحسين قدري] بزيارة السيد طه الهاشمي في داره ليهونا عليه ألم الإهانة من قبل الوصي.
(9)
أما رؤساء الأحزاب السياسية الوطنية فقد وقفوا إلى جانب السيد طه الهاشمي، أبدوا استعدادهم لعمل كل ما من شانه أن يرد الإهانة الصادرة من الوصي عبد الإله بحقه.
(10)

ونتيجة لفشل مؤتمر البلاط ، وتصاعد الأزمة بين الوصي والأحزاب الوطنية، قدم وزير المالية السيد [موسى الشابندر] استقالته من الحكومة متنصلاً من المسؤولية. كما أبدى كل من الوزراء [جمال بابان ] و[نديم الباجه جي ] و[عبد الله الدملوجي] قلقهم من تطور الأوضاع، ورغبتهم في التفاهم مع المعارضة، مهددين بالاستقالة إذا لم تلبِ الحكومة طلبهم، مما جعل الوزارة مهددة بالسقوط .
لكن السفير البريطاني سارع للاتصال برئيس الوزراء العمري، حيث أرسل إليه مستشار وزارة الداخلية، طالباً منه الاستمرار في الحكم مهما جرى، وعدم التفكير بالاستقالة.
(11)
وفي كانون الأول 1952، جرى اجتماع في دار السيد [جميل المدفعي] حضره كل من السادة [نوري السعيد ] و[علي جودت الأيوبي ] و[محمد الصدر] و[توفيق السويدي ] و[مصطفى العمري ]، وجرى البحث في الأوضاع السياسية في البلاد، وتطورات الأزمة، وقد أبدى توفيق السويدي رأيه في قطع المفاوضات مع الأحزاب وحلها، وأجراء الانتخابات النيابية بموجب القانون المعمول به .
وقد أيده في رأيه [علي جودت الأيوبي] و[نوري السعيد] الذي دعا إلى توجيه الضربة للشيوعيين !!، وعدم الرضوخ للمعارضة.
أما الشيخ محمد الصدر فقد طلب السعي لإقناع المعارضة أولاً، فإن رفضت فالحل في [ حل الأحزاب ] وإجراء الانتخابات. (12)
وهكذا تصاعدت الأزمة بين السلطة والمعارضة، وأصبح الانفجار الجديد متوقعاً في كل لحظة، بعد أن رفضت السلطة مطالب المعارضة وكانت الأوضاع الملتهبة تنتظر حادثاً، مهما كان بسيطاً ليشعل فتيل الانتفاضة.

ثالثاً: تدهور الأوضاع، واندلاع وثبة تشرين عام 1952:
كانت الجماهير الشعبية تعيش حالة من الغليان الشديد والغضب العارم من سلوك الحاكمين، وتجاهلهم لإرادة الشعب، وتنتظر الشرارة التي تفجر الانتفاضة.
وجاء قرار عمادة كلية الصيدلة والكيمياء القاضي باعتبار الطالب المعيد لدرس ما معيداً لكافة الدروس، مما أثار غضب الطلاب الذين سارعوا إلى إعلان الإضراب عن الدراسة في 16 تشرين الأول 1952.
أدركت الحكومة خطورة تطور الإضراب واندلاع المظاهرات وتوسعها فأسرعت إلى الإعلان أن القرار لا يشمل الصف المنتهي هذا العام. (13)
لكن الطلاب واصلوا إضرابهم مطالبين بإلغاء القرار، ونتيجة الاستمرار الإضراب اضطرت وزارة الصحة إلى إصدار قرار جديد يقضي بإلغاء قرار العمادة، لكن الطلاب فوجئوا في اليوم التالي بوقوع اعتداء من قبل مجهولين داخل الحرم الجامعي على الطلاب الذين كانوا من النشطين خلال الإضراب، مما أدى إلى قيام المظاهرات الطلابية، وإعلان كافة طلاب الكليات الإضراب عن الدراسة، ثم تبعهم طلاب المدارس الثانوية والمتوسطة وأعلنوا إضرابهم عن الدراسة في 22 تشرين الثاني، تضامناً مع طلاب كلية الصيدلة.
بدأت موجة المظاهرات تأخذ منحاً جديدا ًبعد أن أخذت الجماهير الشعبية تنظم إلى الطلاب المتظاهرين وتطورت إلى مظاهرات سياسية تطالب بتحقيق المطالب التي تضمنتها مذكرات الأحزاب الوطنية إلى الوصي، وإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبسرعة تحولت الاحتجاجات على الأوضاع إلى مظاهرات تهتف بسقوط عبد الإله والحكومة وإخراج الإمبرياليين البريطانيين والأمريكيين من البلاد.
(14)
كان انطلاق المظاهرات الشعبية من [محلة الفضل]،حيث تصدت لها قوات الشرطة مستخدمة الأسلحة النارية ضد المتظاهرين الذين واجهوهم بالعصي والحجارة وبعض المسدسات، حيث وقعت معارك شرسة بين الطرفين استبسل فيها أبناء الشعب مبدين بطولة خارقة، واستشهد نتيجة الصدام أحد المتظاهرين وجرح 14 آخرين، فيما أصيب 38 شرطيا بجراح. ونتيجة لتدهور الوضع سارع مصطفى العمري إلى تقديم استقالة حكومته إلى الوصي عبد الإله.
(15)
لكن المظاهرات والاحتجاجات تصاعدت، وجرى المزيد من الصِدام مع قوات الشرطة حيث أصيب 25 متظاهراً بجراح كان أغلبهم من العمال والكادحين مما ألهب الموقف، واندفع المتظاهرون الشيوعيون والديمقراطيون ورابطة الشباب القومي بالاستيلاء على مركز شرطة [قنبر علي ] و[ مركز شرطة باب الشيخ ]، وتم الاستيلاء على كميات كبيرة من الأسلحة العائدة للشرطة، كما جرى إحراق [مكتب الاستعلامات الأمريكي ] قرب سوق الصفافير، وقد وقع جراء الصِدام مع الشرطة 12 شهيداً من العمال والكادحين، وكان رد فعل الجماهير الغاضبة على استشهاد هذا العدد الكبير من المواطنين أن أقدموا على حرق أحد أفراد الشرطة. وفي المساء كانت السيطرة قد خرجت من أيدي الشرطة، وعمت المظاهرات كل مكان.
(16)
أصبح الوضع خطيراً جداً في بغداد مساء يوم 23 تشرين الثاني، وحاولت الحكومة الاستعانة بقوات الشرطة السيارة، المدربة خصيصاً لقمع المظاهرات، حيث نزلت إلى الشوارع، واصطدمت بالمتظاهرين، ووقع المزيد من القتلى والجرحى حيث استشهد 23 مواطناً فيما قتل 4 من أفراد قوة الشرطة السيارة، وتم إحراق عدد من سيارات الشرطة، وانتهت المعركة ذلك اليوم بهزيمة قوات الشرطة السيارة، وأصبح الوضع في بغداد خطيراً جداً، كما امتدت المظاهرات إلى سائر المدن العراقية الأخرى تضامناً مع جماهير بغداد، ولم يعد لقوات الحكومة القمعية أي سيطرة على الشارع العراقي، مما اضطر الوصي وقد أصابه الرعب من خطورة الموقف إلى قبول استقالة حكومة مصطفى واستدعاء رئيس أركان الجيش، الفريق [ نور الدين محمود ] لتأليف وزارة جديدة في ذلك اليوم 23 تشرين الثاني 1952،وتم إنزال الجيش إلى شوارع بغداد والمدن الأخرى وجرى تأليف الوزارة على عجل، واحتفظ [ نور الدين محمود] بوزارتي الدفاع والداخلية إضافة إلى منصبه كرئيس للوزراء من أجل السيطرة على الأوضاع الأمنية، وإخماد الوثبة. (17)
سارعت الحكومة الجديدة إلى إعلان الأحكام العرفية في نفس اليوم، وجرى تأليف المحاكم العرفية العسكرية، وأصدرت أمراً بمنع المظاهرات والتجمعات وحمل الأسلحة منذرة المخالفين بإنزال أشد العقوبات بحقهم.
كما أعلنت الحكومة عن حل الأحزاب السياسية كافة، وتعطيل معظم الصحف، حيث شمل التعطيل صحف الأهالي، و لواء الاستقلال، والجبهة الشعبية، لسان حال الأحزاب السياسية المعارضة، وكذلك صحف القبس و النبأ واليقظة وصوت الشعب والسجل والحصون والأفكار والوادي والآراء والعالم العربي وعراق اليوم والجهاد.
(18)
لكن المظاهرات استمرت بعنفوانها، متحدية الحكم العسكري الجديد، وكان المتظاهرون يهتفون بسقوط الحكم العسكري، ويطالبون بتشكيل حكومة مدنية برئاسة السيد[كامل الجادرجي].
قام الجيش بالتصدي للمتظاهرين، وجرى إطلاق النار عليهم، حيث استشهد 8 مواطنين، وجرح 84 آخرين، أصدرت الحكومة قرارا بمنع التجول من الساعة السادسة مساءاً وحتى الساعة السادسة صباحا، وقامت خلال الليل بحملة اعتقالات واسعة في صفوف الشعب شملت ما يزيد على 3000 مواطنا بينهم 220 شخصاً من الوزراء لسابقين والنواب والصحفيون ورؤساء الأحزاب وشخصيات سياسية معروفة، وجرى تقديمهم جميعاً إلى المحاكم العرفية العسكرية، حيث حكم على أثنين منهم بالإعدام، وعلى 958 منهم بالسجن لمدد مختلفة، وعلى 582 آخرين بالغرامة، وعلى 294 بالكفالة، وتم الإفراج عن 1161 فرداً.
(19)
وبعد أن تم للحكومة إخماد الوثبة المجيدة بالحديد والنار، ومصادرة الحريات العامة، وإغلاق الأحزاب والصحف، والزج بمئات الوطنيين في السجون، لجأت إلى بعض الإجراءات لتخفيف الغضب الشعبي العارم وامتصاصه، فأصدرت عدة مراسيم تتعلق بخفض الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة والمصدرة [ مرسوم رقم 1 ] وإلغاء رسم الاستهلاك وضريبة الأرض عن المخضرات والأثمار الطرية [مرسوم رقم 2 ] ومرسوم تخفيض ضريبة الأملاك [مرسوم رقم 5 ] وغيرها من المراسيم الأخرى، لكن المرسوم الأهم كان [مرسوم رقم 6] الخاص بتعديل قانون الانتخاب، وجعله على مرحلة واحدة، أي مباشراً.
لكن تلك المراسيم، باستثناء المرسوم رقم 6، لم تكن إلا إجراءات تخديرية لم تستطع حل المشاكل المعيشية التي يعاني منها الشعب، وحتى مرسوم تعديل قانون الانتخاب لم يكن سوى حبراً على ورق، ذلك أن التدخلات التي جرت أثناء الانتخابات التي جرت في 17 كانون الثاني 1953 كانت أكثر من مثيلاتها السابقة، حيث فاز فيها بالتزكية 76 نائباً من مجموع 135 نائباً، وقد وصل الأمر بجميل المدفعي الذي تولى رئاسة الوزارة فيما بعد أن صرح في 17 شباط وهو في قمة السلطة قائلاً : { أنا اعتقد أن بعض الانتخابات غير المباشرة كانت قد جرت أحسن من الانتخابات المباشرة الحالية }.
(20)
وأكد أحد وزراء نوري السعيد المزمنين السيد [ عبد المهدي ] أن الانتخابات لم تجرِ على الطريقة الصالحة، فقد جرى تهديد المرشحين غير المرغوب بهم بوجوب الانسحاب من الترشيح، و إلا ستجبرهم عصابات السلطة إذا ما أصروا على خوض الانتخابات، وقد جرى استدعاء متصرفي الألوية[المحافظين] وتم إبلاغهم بقوائم مرشحي البلاط، وأمروا بالعمل على إنجاحها.
(21)
كما أكد صالح جبر ومحمد مهدي كبه وقوع التدخلات الحكومية المكشوفة
في الانتخابات، وأعلن حزب الاستقلال اللحاق بالحزب الوطني الديمقراطي والانسحاب من الانتخابات. (22)
لم تثنِ إجراءات حكومة نور الدين محمود أبناء الشعب عن سعيهم للخلاص من الزمرة الحاكمة، وإنقاذ البلاد من الهيمنة الإمبريالية، وبدأت بذور الثورة تنمو في أحشاء المجتمع العراقي من جديد لإسقاط ذلك النظام الذي كان هو والشعب على طرفي نقيض، مما جعل أي أمل في إصلاح الأوضاع السياسية في البلاد أمراً مستحيلاً، وأيقن الشعب وقواه الوطنية، والضباط الوطنيون في الجيش أن الطريق لإصلاح الأوضاع لا يمكن إلا بقلب النظام القائم، وإنهاء سلطة تلك الزمرة التي باعت نفسها ووطنها للإمبرياليين.
أما حكومة نور الدين محمود فقد أنجزت المهمة التي كلفها بها الوصي عبد الإله في قمع الوثبة الشعبية العارمة، ولم يبقَ أي مبرر لاستمرارها وعليه تقدم نور الدين محمود باستقالة حكومته إلى الوصي في 23 كانون الثاني 1953، وتم الإعلان عن قبول الاستقالة في 29 منه.
وفي تلك الأيام توارى نوري السعيد عن الأنظار، وابتعد عن السلطة مؤقتاً ريثما تهدأ الأوضاع ليعود من جديد، فقد كان السعيد عاشقاً للسلطة لا يستطيع الابتعاد عنها طويلاً.
سارع الوصي إلى تكليف السيد [ جميل المدفعي] بتشكيل الوزارة الجديدة في 29 كانون الثاني 1953.
ومن الملاحظ في التشكيلة الوزارية هذه أنها جاءت تضم أكبر تجمع لأقطاب السلطة الحاكمة منذ تأسيس الدولة العراقية، فقد ضمت أربعة من رؤساء الوزارات السابقين كان من بينهم [ نوري السعيد ] الذي تسلم حقيبة وزارة الدفاع .
جاءت معبئة كل قواها لإعادة البلاد إلى مرحلة ما قبل وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948، وكان لهؤلاء الساسة المخضرمين دور غير مشرف في تاريخ العراق السياسي، وكانوا منفذين لسياسة المحتلين البريطانيين وعاملين بأمرهم.
لقد وقف عدد من النواب الوطنيين في البرلمان يهاجمون الحكومة الجديدة، ويفضحون رجالها، فقال نائب البصرة [عبد الرزاق الحمود] مخاطبا المجلس والحكومة قائلاً:
{ يتبادر لذهن قارئ يتلو قائمة هذه الوزارة أن العناصر المحافظة قد حشدت قواها،ونظمت صفوفها لتدعيم مركزها، والرجوع إلى عهد ما قبل الوثبة الوطنية عام 1948، وإذا ما تناول أي عراقي هذه الأسماء يجد بعض هؤلاء هم الذين كتبوا بيمينهم تاريخ العراق السياسي الحديث أو معظمه على أقل تقدير، وهذا التاريخ فيه صفحات غير مشرفة، بل صفحات قاتمة فيها أمور تثير الأسى ، وتحز في النفوس. إن على الحكومة أن لا تفكر هذه الأيام في إرضاء المجلس، وهي قادرة حتماً، ولكني أتساءل إن كان بإمكانها إرضاء رجل الشارع ؟ لأنه إذا انفجر الشارع مرة أخرى فإنه سيكون كالبركان وسيعصف بالجميع}.
(22)
أما الشيخ [ محمد رضا الشبيبي ] الذي شارك في العديد من الوزارات السابقة فقد قال:
{ إن البلاد مغلوب على أمرها، وإن الأجنبي الغاشم يتدخل في شؤونها، وإنه يلتزم فريقاً معيناً من الناس، ويفرضهم فرضاً على البلاد، ويناهض كل فئة واعية لها آراؤها المحترمة، وتفكيرها السياسي الناضج منذ زمان طويل إلى هذا اليوم . لقد انشطرت البلاد، مع بالغ الأسف، بسبب هذه السياسة، تجاهلنا جيل واعٍ حديث تفكيره وآراؤه ومناهجه تختلف كل الاختلاف عن تفكيرنا نحن أبناء الجيل القديم الذين اشغلنا المناصب مراراً كثيرة، والذين أبينا أن نفسح المجال في أغلب الأحيان لغيرنا، أو أن نعد أناساً لأشغال هذه المناصب فيما إذا أنتهي أمرنا}.
(23)
لقد بقيت البلاد تحكم حكماً عرفياً، وبقت الصحف والأحزاب السياسية ملغاة، والبؤس والفقر يفتك بملايين المواطنين، وكان كل ما تفكر به الوزارة هو تثبيت ذلك لنظام الذي أسسه الإمبرياليون البريطانيون، وتنفيذ كل ما يؤمرون به من قبل السفارة البريطانية في بغداد، والتي كانت تتدخل بكل صغيرة وكبيرة، فلا يمكن أن تُشكل وزارة دون إرادتها ومباركتها .
لقد استمرت الأحكام العرفية طوال عهد هذه الوزارة والوزارة التي أعقبتها، وكانت برئاسة المدفعي نفسه، واستمر تعطيل الصحف، ولم يُسمح للأحزاب بممارسة نشاطها، رغم المذكرات التي رفعها كل من السادة [كامل الجادرجي ] رئيس الحزب الوطني الديمقراطي، و[محمد مهدي كبه] رئيس حزب الاستقلال إلى رئيس الوزراء، وطالباه فيها إنهاء الأوضاع الشاذة في البلاد، وإلغاء الأحكام العرفية، وعودة الصحافة الوطنية للصدور، واستعادة الأحزاب الوطنية لنشاطها السياسي، فقد بعث السيد محمد مهدي كبه بمذكرته الأولى في 31 كانون الثاني 1953، وبعث السيد كامل الجادرجي بمذكرته الأولى في 1 شباط 1953، ولما كان رد رئيس الوزراء غير مقنع، وكان مقتضبا ً، وحاول التهرب من الإجابة الصريحة، رافضاً إعطاء موعد محدد لإلغاء الأحكام العرفية، وعودة النشاط السياسي للأحزاب، وعودة الصحف الملغاة، فقد رد الزعيمان كبه، والجادرجي على رئيس الوزراء بمذكرتين جديدتين في 14 شباط 1953 اتهماه بالمراوغة وتجاهل المطالب التي قدماها إليه، والمعبرة عن تطلعات
الشعب.
لكن الحكومة كانت في وادٍ، والشعب وقواه السياسية الوطنية في وادٍ آخر، مما دفع بالصراع بين الطرفين إلى التصاعد من جديد، و بدأت نذر الانفجار تتولد من جديد.
بسبب إصرار النظام القائم على السير في نفس الطريق الذي اختاره لهم أسيادهم الامبرياليين، غير مبالين بمصالح الشعب وحقوقه المسلوبة، ودون الاتعاظ بالأحداث الماضية، كما سنرى فيما بعد.
(24)

رابعاً: فيصل الثاني يبلغ سن الرشد، ويتوج ملكاً على العراق
في الثاني من أيار 1953، بلغ الملك فيصل الثاني سن الرشد، وتولى مهامه الدستورية ملكاً على العراق، وأقيمت في بغداد حفلة التتويج حيث اقسم اليمين القانونية، وأبدى الشعب العراقي سروراً بالغاً بانتهاء وصاية الأمير عبد الإله، لما كان يكنه له من كره، محملاً إياه كل ما حدث في العراق من مآسي وويلات، كما أنه كان وراء مقتل الملك غازي بالتعاون مع نوري السعيد، والإنكليز.
كان الشعب العراقي يتوق إلى التغيير، بعد تولي الملك فيصل الثاني مهامه الدستورية، لكن آماله خابت، وظهر فيما بعد أن الملك الشاب كان لا حول له ولا قوة، وكان ألعوبة في يد عبد الإله، ونوري السعيد ، ومن ورائهم الإنكليز، وأصيب الشعب العراقي بخيبة أمل مريرة في إجراء أي إصلاح لأوضاع البلاد وأحوال الشعب. وبمناسبة انتقال السلطة إلى الملك فيصل الثاني قدم السيد[ جميل المدفعي] استقالة حكومته، حسبما ينص الدستور، وقد كلفه الملك بإعادة تأليف الوزارة من جديد في 5 أيار 1953، وجاءت الوزارة الجديدة بنفس تشكيلاتها السابقة باستثناء إضافة وزيرين للدولة هما السيد [علي الشرقي] و[السيد نديم الباجه جي] الذي أصبح فيما بعد وزيراً للأعمار التي استُحدثت في 23حزيران 1953 .
ورغم تسلم الملك فيصل الثاني سلطاته الدستورية فإن شيئاً لم يتغير، فقد بقيت حكومة المدفعي بتشكيلاتها السابقة، تضم أقطاب الزمرة الحاكمة بكل تاريخها المرتبط بخدمة المصالح الإمبريالية البريطانية، والتنكر لطموحات الشعب في الحرية والاستقلال، والحياة الحرة الكريمة.
وبقيت الأحكام العرفية سيفاً مسلطاً على رقاب الشعب، وبقيت الصحافة الوطنية معطلة، والأحزاب الوطنية ملغاة رسمياً، ومحاربة فعلياً،على الرغم من إصرار تلك الأحزاب على عدم الاعتراف بحلها، لكن نشاطها اقتصر على تقديم المذكرات للملك والحكومة.
فقد قدم الحزب الوطني الديمقراطي في 18 أيار 1953 مذكرة إلى الملك فيصل الثاني حول الأوضاع السائدة في البلاد، وضرورة أجراء الإصلاحات الضرورية، وإلغاء الأحكام العرفية، وإفساح المجال لحرية الأحزاب والصحافة، وانتهاج سياسة وطنية بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية.
كما بعث حزب الاستقلال بمذكرة أخرى مشابهة استعرض فيها أوضاع البلاد المتدهورة جراء سياسة الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم، مطالباً بالإصلاحات الضرورية، ومعالجة مشاكل الشعب المعيشية .

خامساً:مذكرة الحزب الوطني الديمقراطي للملك فيصل الثاني:
حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم:
يا صاحب الجلالة:لابد أن جلالتكم قد اطلعتم على المذكرات التي تقدم بها حزبنا، وحزبا الاستقلال والجبهة الشعبية، بتاريخ 28 تشرين الأول 1952 إلى سمو ولي العهد المعظم،عندما كان يزاول الوصاية على العرش، إذ بلغ سوء الأوضاع في العراق غاية في التردي، وعمت الشكوى أوساط الشعب، وباءت كل دعوة للإصلاح بالفشل.
وقد اتفقت الكلمة في تلك المذكرات على خطورة الوضع القائم في البلاد، وقد طالب كل حزب بما يجب القيام به من إصلاح شامل ليتمتع الشعب العراقي بحرياته الدستورية، وفي تعين سياسة العراق الخارجية على أسس وطنية، وتحديد موقفه من المشاريع الاستعمارية التي يراد فرضها على البلاد، بإعلان حياده تجاه التكتلات الدولية، واجتناب كل ارتباط له بالدول الاستعمارية، والمحافظة على سلامته، وتنظيم أحواله الاجتماعية والاقتصادية والمالية على أسس سليمة.
وقد كانت هذه المطالب ولا تزال تعبر عن ضرورة ملحة للشعب العراقي في تحقيق الإصلاح الذي ينشده، مما كان يستوجب المبادرة إلى تحقيقها .
غير أن الجو الذي تركه مؤتمر البلاط المنعقد في اليوم الثالث من تشرين الثاني 1952، لبحث ما جاء في تلك المذكرات، وعدم الاكتراث بتلك المطالب، والإصرار على استبقاء قانون الانتخاب السابق، وسوء تصرف الحكومة القائمة آنذاك في قضايا الطلاب وما إلى ذلك من أمور تتعلق بتصرفات المسؤولين، كل ذلك أدى إلى وقوع حوادث دامية أسفرت عن استقالة حكومة فخامة السيد [مصطفى العمري]، وتسليم مقاليد الأمور إلى الجيش، وإعلان الأحكام العرفية، وإلغاء الأحزاب والصحف الحزبية، ومعظم الصحف الحرة، واعتقال عدد كبير من المواطنين، بما فيهم قادة الأحزاب والكثير من الصحفيين وأصحاب الرأي، دون سبب مبرر، وقد أضافت تلك الإجراءات الشاذة إلى حالة البلاد سوءاً على سوء، وخلقت جواً إرهابياً لا يستطيع معه الشعب التعبير عن إرادته في القضايا الداخلية والخارجية على السواء، ومن ضمنها الانتخابات العامة التي أجريت في ذلك الجو الإرهابي .
إن الأحكام العرفية التي أعلنت فور تسليم مقاليد الأمور إلى الجيش قد اتُخذت وسيلة لإجراء تغير كبير في أسلوب الحكم، إذ أن تلك الأحكام قد ألغت نظام الحكم الديمقراطي المقرر للبلاد، وقلبته في الواقع إلى نظام دكتاتوري سافر. فالحياة الحزبية لا تزال معطلة، وحرية الصحافة لا تزال مفقودة، والحملة الإرهابية ضد المواطنين عامة، والمثقفين خاصة لا تزال مستمرة، ومن شأن ذلك كله كما تعلمون جلالتكم أن يزيد من استياء الشعب، ويعزز الاعتقاد بأن استمرار هذه الحالة الشاذة يضع جميع المواطنين في قلق دائم، ويجعل بإمكان السلطة انتهاك الحريات العامة والخاصة لكل مواطن لأعذار واهية لا تتصل بالمصلحة العامة.
وقد قدم الحزب الوطني الديمقراطي عدة مذكرات إلى فخامة السيد [جميل المدفعي]،منذ أن ألف وزارته السابقة، أثبت فيها خطأ تلك الإجراءات التي اتخذت ضد الأحزاب الوطنية، وصحافتها، والصحافة الحرة، من الوجهة الدستورية والقانونية، وطالب مراراً بإنهاء هذا الوضع الشاذ، وإعادة الأحزاب الملغاة، وفسح المجال لصحافتها والصحافة الحرة للقيام بواجباتها الوطنية في هذه الظروف الدقيقة التي يجتازها العالم، وبصفة خاصة العراق باعتباره جزء من البلاد العربية التي تجري المساومة على كيانها ومستقبلها من قبل المستعمرين، إلى جانب معالجة حالة البلاد السيئة التي تتطلب إبداء كل مواطن عراقي رأيه فيها، وقد وعدت الحكومة مراراً، سواء في جواب رئيسها إلى الأحزاب، أو في تصريحاته وتصريحات بعض المسؤولين في البرلمان والصحف بأنها سوف تنهي الإدارة العرفية حالما ترى زوال الأسباب التي دعت إلى إعلانها،غير أن الحكومة استبقت الإدارة العرفية من دون سبب مبرر، كما أنها لم تتخذ أي إجراء من شأنه أن يعيد إلى الأحزاب كيانها القانوني وحقوقها الدستورية.
وكان المعتقد أن الوعود التي قطعت للأحزاب، وللرأي العام، بإنهاء الوضع الشاذ القائم لا يمكن أن تبقى مجرد أقوال، وخاصة بعد تسلم جلالتكم سلطاتكم الدستورية، لأن الشعب العراقي حريص على إنهاء هذا الوضع الإرهابي الذي يرزح تحت نيره.
ولاشك أن في عدم الاستجابة لمطالب الشعب التي تبنتها الأحزاب في مذكراتها، واستمرار الحكم على أساس دكتاتوري، وانتهاز الفرص لإعلان الأحكام العرفية واستبقائها ،وجعلها هي الأساس لمزاولة الحكم، كل ذلك لا يتفق مع رغبة الشعب في أن يكون هذا العهد دستورياً تضمن فيه للمواطن جميع حرياته المغتصبة، وتسترد فيه حقوقه السياسية المسلوبة، ولا تزال فيه سيئات العهد الماضي الذي عانى الشعب منه الأمرّين. فالشعب يا صاحب الجلالة إنما يتطلع إلى استرداد حرياته وحقوقه، وإلى إنهاء هذا الوضع الشاذ الذي لا يزال قائما، أملاً أن يكون في مقدمة ذلك إلغاء الأحكام العرفية، وإعادة الحياة الحزبية، وما يرافقها من حريات تمهيداً لتحقيق المطالب الشعبية الأساسية التي عبرت عنها الأحزاب في مذكراتها.
والحزب الوطني الديمقراطي إذ يتقدم بهذه المذكرة، ليأمل أن يكون عهد جلالتكم، عهداً تحترم فيه أحكام الدستور، لتحقيق سيادة الشعب التي هي أهم مقوماته، وبذلك يكون هذا العهد حقاً جديداً للعراق، من حيث واقع حياته،لا من حيث الشكل فحسب.
وتفضلوا يا صاحب الجلالة بقبول خالص احترامنا.
(25)
بغداد في 5 رمضان 1372 هجرية المصادف 18 أيار 1953 ميلادية .
كامل الجادرجي
رئيس الحزب الوطني الديمقراطي
لكن الملك فيصل، ومن ورائه عبد الإله ونوري السعيد، لم تعجبهم تلك المذكرات، ولم يكلف نفسه مشقة الرد عليها، بل لم يتح له خاله الوصي عبد الإله فرصة الرد عليها، وأشار عليه أن يحيلها إلى رئيس الوزراء السيد [جميل المدفعي] ليجيب عليها نفسه إجابة مقتضبة فيها الكثير من المراوغة والتهرب من تلك المطالب، وبدا للشعب وأحزابه الوطنية أن العهد الجديد ما هو إلا امتداد لذلك العهد الأسود، عهد عبد الإله ونوري السعيد، وأن السلطة الحاكمة ماضية في سياسة اضطهاد الشعب وحرياته الدستورية، واضطهاد الأحزاب والصحافة الوطنية، حيث بقيت تلك الأحزاب ملغاة رسمياً والصحافة معطلة، والأحكام العرفية سيفاً مسلطاً على رقاب الشعب.

سادساً:الحكومة تقترف جريمة كبرى ضد السجناء السياسيين
لم تكتفِ تلك الحكومة بكل هذا، بل تمادت في غيها وارتكبت جريمة كبرى بحق السجناء السياسيين الشيوعيين في سجن بغداد ذهب ضحيتها 7 سجناء استشهدوا برصاص الشرطة، وجرح23 آخرين، وهذا وصف للمجزرة البشعة التي نفذتهما الحكومة في السجن المذكور.
(26)
أحدثت تلك الجريمة النكراء صدمة كبرى للشعب العراقي وقواه السياسية الوطنية، وانبرت الأحزاب والصحافة تهاجم الحكومة، وتفضح حججها في تبرير الهجوم، وقتل وجرح السجناء العزل دون وازع أخلاقي أو إنساني.
لقد تلبد الجو في بغداد من جديد لهول تلك الجريمة، وقامت على أثرها مظاهرات ضمت عوائل السجناء وأبنائهم وذويهم، وتوجهوا إلى المستشفى للبحث عن أبنائهم وذويهم، لكن الشرطة تصدت للمتظاهرين هذه المرة أيضاً وأطلقت الرصاص عليهم، مما أدى إلى استشهاد وجرح عدد آخر منهم، وألقت الشرطة القبض على الكثيرين، حيث سيقوا إلى المجلس العرفي العسكري الذي وسعت الحكومة صلاحياته في 20 حزيران 1953، إمعاناً في سياستها المعادية للشعب.
(27)
وعلى الأثر قدم الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال مذكرتي احتجاج شديدة اللهجة إلى الحكومة، واتهمتها بتدبير المؤامرة على السجناء السياسيين لأجل تصفيتهم جسدياً، وطالبت المذكرتان بإجراء تحقيق قضائي عادل، وتحديد المسؤولين عن تلك الجريمة، وإحالتهم إلى المحاكم لمحاكمتهم .
كما قدم 20 نائباً في البرلمان احتجاجاً على تلك الجريمة، وقدموا طلباً لمساءلة الحكومة أمام البرلمان. إلا أن الأكثرية الموالية للسلطة رفضت الاستجابة للطلب، حيث صوت 65 نائباً سعيدياً ضده، وبذلك افشل الطلب، ولم تجرِ الحكومة أي تحقيق جدي حول الجريمة، ولم يتم إحالة أي مسؤول إلى المحاكمة، وتم إسدال الستار عنها. (28)
وتجاهلت حكومة المدفعي كل الاحتجاجات والحملات الصحفية، ومذكرات الأحزاب، والمظاهرات، على جريمتها في سجن بغداد، وتمادت في غيها وتحديها للرأي العام، وراحت تخطط لمجزرة جديدة في [سجن الكوت ] الذي كان يضم 123شيوعياً كانوا قد احتجوا على جريمة الحكومة في سجن بغداد، ومحاولة الحكومة نقلهم إلى سجن بعقوبة، كما فعلت مع السجناء الشيوعيين في سجن بغداد. وتنفيذاً لهذه الغاية حاولت الحكومة تجريد السجناء في ذلك السجن من كل وسيلة يمكن بواسطتها الدفاع عن أنفسهم، فقد تعلمت الحكومة التجربة من سجن بغداد، أرادت أن توقع أكبر عدد من الإصابات في صفوف السجناء. و عليه أجرت سلطات السجن حملة تفتيش واسعة لأمتعة السجناء، وأدوات المطبخ، وجردتهم من كل ما اعتبرته آلة حادة كسكاكين الطعام وغيرها.
وبعد أن تم لهم ما أرادوا حاولت الحكومة نقلهم بالقوة إلى[سجن بعقوبة] لكن السجناء رفضوا تنفيذ القرار، واعتصموا بردهاتهم رافضين الخروج منها، ومانعين حراس السجن و الشرطة من دخولها.
ورداً على موقف السجناء لجأت سلطات السجن إلى قطع الماء والطعام والكهرباء عن السجناء لإجبارهم على الخروج، مما أدى إلى نفاذ الماء والطعام لديهم ، واضطر السجناء إلى حفر بئر داخل إحدى الردهات للحصول على الماء، لكن الماء كان مالحاً، مما أضرّ بصحتهم، وبلغ بهم الجوع حداً لا يطاق، وقد تعمدت السلطة ذلك من أجل إنهاك السجناء وإضعاف مقاومتهم. ولما تم لها ذلك بدأت قوات الشرطة بالهجوم على السجناء مستخدمة في بادئ الأمر الحجارة، حيث راحت تنهال على السجناء بكثافة حال خروجهم من الردهات، وحاول العديد من السجناء استخدام القدور غطاءاً واقياً لرؤوسهم، لكن الشرطة فاجأتهم باستخدام الرصاص الذي حصد من السجناء 8 شهداء، وجرح 96 سجيناً آخر، وتحولت باحة السجن إلى مجزرة حقيقية تغطيها الدماء، ولم ينجُ من السجناء سوى 19 فرداً فقط أحدثت الجريمة الجديدة هيجانا شديداً لدى الرأي العام العراقي الذي تأكد لديه أن الحكومة قد تعمدت قتل السجناء الشيوعيين عن سابق تصميم، وأنها لا تعير أي أهمية للرأي العام في البلاد، واستنكرت الأحزاب السياسية جريمة السلطة واتهمتها بالتعمد في قتل الأبرياء العزل، وتجاهل أراد الشعب وقواه الوطنية، وتجاهل الدستور وحقوق وحريات الشعب التي نص عليها، والتي جعلتها الحكومة حبراً على ورق، إرضاءاً لأسيادهم الإمبرياليين.
(29)
و نتيجة للغضب العارم الذي اجتاح البلاد من أقصاها إلى أقصاها، والخوف من تحوله إلى انتفاضة جديدة، حاول النظام الملكي امتصاص ذلك الغضب، فأوعز إلى رئيس الوزراء بتقديم استقالة حكومته، بعد أن أنجزت المهمة القذرة التي أوحى لهم بها أسيادهم الإمبرياليون.
وسارع جميل المدفعي إلى تقديم استقالة حكومته إلى الملك في 15 أيلول 1953، وقُبلت الاستقالة في 17 منه .
وعلى أثر استقالة الحكومة دعا الملك فيصل وخاله عبد الإله، كل من [الشيخ محمد الصدر] رئيس مجلس الأعيان،و الدكتور[ فاضل الجمالي] رئيس مجلس النواب إضافة إلى رئيس الديوان الملكي[ احمد مختار بابان] إلى مقر أقامته في [مصيف سرسنك] للتداول في أمر تأليف وزارة جديدة، وقد اقترح الشيخ الصدر على الملك تأليف وزارة من وجوه جديدة، وحل مجلس النواب،وإجراء انتخابات جديدة.
استقر رأي الملك، بعد استشارة السفير البريطاني في بغداد،على أن يكلف الدكتور فاضل الجمالي بتأليف الوزارة، وأن تضم وجوهاً جديدة فيما اختار الملك وزيرا الدفاع والداخلية، وصدرت الإرادة الملكية بتكليف الجمالي في 17 أيلول 1953، وتم استبعاد نوري السعيد من الوزارة على الرغم من أن حزبه يتمتع بالأغلبية المطلقة في البرلمان رغبة من النظام في امتصاص النقمة الشعبية على سلوك الحكومة السابقة لفترة من الزمن، ليعود بعدها إلى الواجهة من جديد.
(30)
بدأت وزارة الجمالي عملها بإجراءات تهدف إلى التنفيس عن الشعب وإطلاق بعض الحريات العامة التي كانت حكومة نور الدين محمود قد كتمتها إثر وثبة تشرين الثاني المجيدة عام 1952، فأعلنت الحكومة إلغاء الأحكام العرفية في 5 تشرين الأول، وأحالت قرار حكومة نور الدين محمود حول حل الأحزاب والجمعيات إلى ديوان التفسير القانوني الذي جاء قراره بعدم شرعية قرار الحل، وبذلك عادت الأحزاب السياسية إلى ممارسة نشاطها. كما أعيدت الصحف إلى الصدور، مما خلق جواً من الارتياح لدى الشعب بعد أن خنقت وزارة نور الدين محمود ووزارتي جميل المدفعي أنفاس. كما قررت الوزارة إعادة المفصولين من الأساتذة والمدرسين والطلاب، بغية امتصاص النقمة الشعبية. كما قامت ببعض الإجراءات الطفيفة التي تمس أحوال الشعب المعيشية، كتخفيض الرسوم والضرائب المفروضة على الشعب الكادح.
لكن تلك الإجراءات لم تستطع حل مشاكله، واستمرت معاناته من سوء الأوضاع المعيشية، وجاء إضراب عمال نفط البصرة لينسف كل الإجراءات التي اتخذتها حكومة الجمالي لتهدئة الأوضاع، وعادت بها إلى الصفر من جديد.

سابعاً: الحكومة تقمع إضراب عمال نفط البصرة بالحديد والنار
كان عمال شركة نفط البصرة قد تقدموا بمطالب عدة تهدف إلى تحسين وضعهم المعيشي، لكن الشركة رفضت الاستجابة للمطلب الرئيسي المتضمن زيادة الأجور، مما اضطر العمال إلى إعلان الإضراب عن العمل حتى تستجيب الشركة لمطالبهم.
وفي الأول من كانون الأول سافر وزير الشؤون الاجتماعية حسن عبد الرحمن إلى البصرة في محاولة لإقناع العمال بالعودة إلى أعمالهم واعداً إياهم بأن تقوم الحكومة بالضغط على الشركة لتلبية مطالبهم.
(31)
وبالفعل عاد العمال المضربون إلى أعمالهم في 14 كانون الأول 1953، على أمل أن تحقق الشركة تلك المطالب، إلا أن الشركة أصرت على موقفها ورفضت الاستجابة لزيادة الأجور، مما دفع العمال إلى العودة إلى الإضراب من جديد. (32)
سارع وزير الداخلية
[سعيد قزاز] إلى اتهام الشيوعيين بالتحريض على الإضراب، ثم عاد ووصم العمال المضربين أنفسهم بالشيوعية تمهيداً لقمع الإضراب بالقوة، وسافر[سعيد قزاز] إلى البصرة ليكون على مقربة من الأوضاع هناك، وليهيئ الأجواء لتوجيه ضربته الموجعة للمضربين وكسر إضرابهم. ولم يمض وقت طويل حتى نفذ ما في جعبته، مطلقاً جهازه القمعي لتوجيه رصاصه إلى صدور المضربين، مما أدى إلى استشهاد أحد العمال، وجرح العديد منهم. (33)
تصاعدت أجواء التوتر بعد الصدامات بين الشرطة والمتظاهرين، وفلت الزمام من أيدي الشرطة، وبات الوضع ينذر بعواقب وخيمة، مما جعل الحكومة تستدعي الجيش للسيطرة على الوضع، وأعلنت الأحكام العرفية من جديد، كما تم تعطيل 9 صحف وطنية لفضحها جرائم السلطة بحق المضربين، وتأييدها لمطالبهم التي لا تعدو مطالب تتعلق بالحالة المعيشية، وشمل التعطيل صحف النداء والأخبار والميثاق والدفاع والجيل والآراء والجريدة والعزة.
كما تم إحالة صحيفة الحزب الوطني الديمقراطي ـ الأهالي ـ وصحيفة حزب الاستقلال ـ لواء الاستقلال ـ إلى محكمة الجزاء لقيامهما بفضح جرائم السلطة، واستنكارهما لإعلان الأحكام العرفية من جديد، ولمّا يمضي على إلغائها سوى أيام معدودات.
أما حزب الجبهة الشعبية الذي اشترك اثنان من قادته في الوزارة، وهما [حسن عبد الرحمن] و[ عبد الرحمن الجليلي]، فقد قرر الحزب سحبهما من الوزارة احتجاجاً على سياسة الحكومة، وقدم الوزيران استقالتيهما في 17 كانون الثاني 1954.
(34)
وعلى أثر الاستقالات المذكورة قدم الجمالي استقالة وزارته إلى الملك فيصل الثاني الذي قبلها على الفور، وكلفه بإعادة تأليفها من جديد.
جاء تشكيل الوزارة الجمالية بعيداً عن إرادة البريطانيين، ورجلهم القوي نوري السعيد، لكنها كانت برغبة أمريكية، فقد جاء توقيع اتفاقية الأمن المتبادل، والمساعدة العسكرية مع الولايات المتحدة في 21 نيسان 1954، لتؤكد هذا الاتجاه لحكومة الجمالي.
أثار تشكيل الوزارة استياء وغضب نوري السعيد، وجعله يغادر العراق إلى بريطانيا، والمكوث فيها أكثر من ثلاثة أشهر، محتجاً على عدم استشارته في تأليف الوزارة، رغم أن له الأكثرية المطلقة في البرلمان وأخذ نوري السعيد يتحين الفرص لإسقاطها، مستنداً على رجالاته في مجلس النواب الذين أخذوا يعرقلون أعمال الحكومة لإجبارها على الاستقالة.
(35)
لم يمضِ سوى شهر واحد على تأليف وزارة الجمالي الثانية حتى بدأ النواب الموالين لنوري السعيد والسفارة البريطانية يشنون الهجوم تلو الهجوم عليها، ويضعون العراقيل أمامها، فلم يجد الجمالي بُداً من تقديم استقالة حكومته في 19 نيسان 1954حيث تم قبول الاستقالة في 29 منه.
توثيق الحلقة الثالثة عشر(1) صحيفة الجبهة الشعبية ـ العدد 379 في 29 تشرين الأول 1952 .(2) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثامن ـ ص 306 ـ عبد الرزاق الحسني .(3) نفس المصدر السابق ـ ص 308 .(4) صحف الأهالي ولواء الاستقلال والجبهة الشعبية في 14 تشرين الثاني 1952 .(5) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثامن ـ ص 315 ـ الحسني (6) نفس المصدر السابق ـ ص 316 .(7) المصدر السابق .(8) نفس المصدر ـ ص 317 .(9) كتاب الأحلام ـ ص 175 ـ علي الشرقي .(10) نفس المصدر السابق ـ 318(11) يوميات مصطفى العمري ـ في 8 ،9 ، 11 تشرين الثاني 1952 (12) نفس المصدر السابق .(13) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثامن ـ ص 325 ـ الحسني .(14) نفس المصدر السابق .(15) صحيفة اليقظة ـ العدد 1581 ـ في تشرين الثاني 1952 .(16) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثامن ـ ص 322 ـ الحسني .(17) نفس المصدر السابق ـ ص 326 .(18) نفس المصدر ـ ص 332ـ 334 .(19) المصدر السابق ـ ص 335 .(20) نفس المصدر ـ ص 340 ـ342 .(21) محاضر مجلس الأعيان السادس والعشرون ـ لسنة 52ـ53 ـ ص 8 .(22) محاضر مجلس النواب لسنة 1953 ـ ص 11 .(23) محاضر مجلس النواب لسنة 1953 ـ ص 10 .(24) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء التاسع ـ ص 39 ـ الحسني .(25) صحيفة الأوقاف العراقية ـ العدد 330 ـ في 4 حزيران 1953 .(26) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء التاسع ـ ص 14 ـ18 ـ الحسني .(27) نفس المصدر السابق ـ ص 42 .(28) نفس المصدر ـ ص 44 .(29) صحيفة الحوادث ـ العدد 3198 ـ في 10 أيلول 1953 .(30) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء التاسع ـ ص 50 .(31) محاضر جلسات محكمة الشعب ـ المجلد الثالث ـ ص 1046 .(32) صحيفة لواء الاستقلال ـ العدد 1754 ـ في 17 كانون الأول 1953 .(33) صحيفة الزمان ـ العدد 4911 في 16 كانون الأول 1953 .(34) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء التاسع ـ ص 71 .(35) المصدر السابق ـ ص 133 .
 

0 التعليقات:

ترجم الموقع

English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean

ألباحث حامد الحمداني

تجد هنا أرشيف موقع حامد الحمداني

آخرالمواضيــع

مواقع مختارة

حقيبة الكـتب