في الذكرى الخامسة والأربعين لانتفاضة الشيوعيين ضد نظام انقلابيي 8 شباط
3:28 م | مرسلة بواسطة
hamid
حامد الحمداني
4/7/2008
بعد وقوع انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، وحملة التنكيل بالحزب الشيوعي، واستشهاد الكثير من قياداته وكوادره ورفاقه ، وبعد امتصاص تلك الضربة الموجعة التي وجهها الانقلابيون له، بدأ الشيوعيون الناجون من الاعتقال تجميع صفوفهم وتنظيمها من جديد، وكان هناك عدد من قياديي وكوادر الحزب مازالوا طليقين، قسم منهم لم يكن مكشوفاً، وقسم آخر كان في الاختفاء. وأخذ يعمل في الخفاء، وكان من بين الناجين من قيادة الحزب الشهداء [محمد صالح العبلي] و[جمال الحيدري] و[عبد الجبار وهبي] .
بدأ أولئك القادة حملة نشيطة لإعادة بناء الحزب من جديد، والنضال ضد الانقلابيين، وكانت هناك مجموعة كبيرة من العناصر الثورية الجريئة في صفوف الحزب، مستعدة لكل التضحيات في سبيل القضية التي ناضلوا من أجلها.
كما كان من بين الكوادر المتقدمة في الحزب التي استطاعت النجاة من الاعتقال الشهيد[إبراهيم محمد علي] من مدينة مخمور، عضو اللجنة العمالية المركزية للحزب المتصلة مباشرة باللجنة المركزية للحزب الشيوعي، والتي تمثل العمود الفقري لتنظيمات الحزب، حيث كانت تدير أكثر من 50 نقابة عمالية في كافة المشاريع الكبيرة والصغيرة في مختلف أنحاء العراق.
كان إبراهيم كادراً حزبيا بارزا عمل في المنظمات العمالية والفلاحية في كردستان العراق، ثم انتقل إلى بغداد واحترف العمل الحزبي تحت الاسم المستعار[ جهاد]، وعمل في الوقت نفسه ملاحظا في مطبعة الرابطة بالعيواضية العائدة للشخصية السياسية البارزة [ عبد الفتاح إبراهيم ]، وهي من كبريات المطابع في بغداد ، وقد استطاع إبراهيم بخلقه وإخلاصه في عمله من كسب محبة وثقة الأستاذ عبد الفتاح إبراهيم الذي صار يأتمنه في كل صغيرة وكبيرة.
وفي الوقت نفسه حل محل الرفيق [مهدي أحمد الرضي] بمسؤولية هيئة المشاريع الصغرى لتنظيم الحزب الشيوعي ، حيث كلف الحزب مهدي الرضي، مسؤول اللجنة، بتولي مسؤولية مطابع الحزب السرية بناء على توصية أخيه سلام عادل ، وكان مهدي الرضي هو الذي رشح شخصيا إبراهيم لهذه المهمة.
عمل الشهيد إبراهيم جاهدا في ظل تلك الظروف القاسية والخطير من أجل ربط خلايا الحزب وإعادة التنظيم في الخط العمالي من جهة، وإعادة ربطها بقيادة الحزب المذكورة آنفاً من جهة أخرى، والتي كانت السبب في وقوعه في الفخ الذي نصبته له عصابات الحرس القومي بعد القبض على محمد حبيب، واعترافه بكون إبراهيم محمد علي هو مسؤوله الحزبي الذي يقود التنظيم.
وبحكم كون إبراهيم محمد علي مسؤولاً عن اللجنة العمالية الثالثة فقد كان المسؤول الحزبي لمحمد حبيب المسمى بأبي سلام، وعلى صلة مباشرة به، وكان محمد حبيب مسؤولاً حزبياً عن المجموعة الصِدامية الشجاعة التي قادت ونفذت انتفاضة معسكر الرشيد في الثالث من تموز عام 1963، بقيادة المناضل الجسور[حسن سريع] ، وكان إبراهيم يلتقي به في دار الكادر الحزبي [ خضير] بالقرب من ساحة الوثبة.
لقد شاءت الظروف أن تجمعني بالشهيد إبراهيم علاقة عائلية وثيقة، حيث كان قد تزوج شقيقة زوجتي قبيل انقلاب 8 شباط بوقت قصير، ولكني لم تتح لي الفرصة للالتقاء به إلا بعد الانقلاب، حيث كنت أمارس التعليم في مدينة السليمانية، وصدر بحقي إلقاء القبض في اليوم الأول لانقلاب شباط 63، وفصلت من الوظيفة. لكني استطعت النجاة من الاعتقال، ومكثت في السليمانية متخفيا حتى العشرين من حزيران، واضطررت إلى مغادرة السليمانية إلى بغداد بعد اندلاع الحرب في كردستان بمساعدة الرفاق الأكراد .
لم يكن لدي ملجأ آمن في بغداد، وقد استطاعت زوجتي الوصول إلى شقيقتها رهبية وزوجها الشهيد إبراهيم حيث كانا مختفيان في دار شقيقه إسماعيل محمد علي، وعلى الفور دعانا للقدوم بشكل مؤقت ريثما يستطيع تأمين استئجار دار لنعيش فيه مختفين معا . كانت معي زوجتي وطفلاتي الثلاث، واستطاع إسماعيل محمد علي ـ شقيق إبراهيم ـ أن يستأجر لنا داراً في الصليخ الجديدة بالقرب من دار أهل زوجتي، حيث انتقلنا إليه وكانت فرحتنا به كبيرة جداً، حيث استطعنا تحقيق الاستقلال دون أن نثقل على أحد أو نجلب المخاطر لأحد.
ورغم صعوبة تلك الظروف والمخاطر المحدقة بنا في كل لحظة، فقد عشنا أياماً كنت خلالها اكتشف كل يوم صفات وخلق وشجاعة ذلك الإنسان النبيل الذي اتصف بالبساطة، وسمو الخلق، والروح الجهادية العالية، والإيمان بالمبادئ، والاستعداد للتضحية اللامتناهي.
لقد حدثني الشهيد إبراهيم عن تفاصيل الإعداد لحركة ثورية واسعة تطيح بحكم حزب البعث الفاشي كان من المقرر تنفيذها في 5 تموز، وتقتضي الخطة بالسيطرة على معسكر الرشيد والقاعدة الجوية فيه، وإطلاق سراح الضباط المعتقلين في سجن رقم واحد في المعسكر المذكور، وهذا الدور كان قد أنيط سياسيا بمحمد حبيب، وتنفيذيا بقيادة المناضل الشجاع حسن سريع .
وكانت هناك مجموعة داعمة كان من المفترض إن تعمل خارج معسكر الرشيد ، وكانت صلاتها مع الحزب، وكان صلة الوصل بينها وبين الحزب احد الرفاق من أهالي تلعفر يدعى عباس التركماني، وهو عامل في معمل الدرزي وبرايا للكاشي والموزائيك في منطقة النعيرية والقيارة قرب معسكر الرشيد وقاعدة الرشيد الجوية، وفي منطقة كمب سارة الملاصقة لمعسكر الرشيد التي كان يسكن فيها قائد الحزب الشهيد [جمال الحيدري] الذي كان يتابع بنفسه نشاط جماهير الحزب في منطقة الصرائف قرب نهر دجلة، ومعمل الزيوت النباتية شمال معسكر الرشيد، والتي كان يسكنها آلاف العوائل الفقيرة، وهم في غالبيتهم يشكلون جماهير الحزب، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من أبناء عشيرة البو عامر قرب المحمودية.
كانت ساعة الصفر هي إذاعة البيان الأول للانتفاضة من إذاعة بغداد حيث كان لدى الحزب مجموعة من الجنود المكلفين بحراسة دار الإذاعة مستعدين للقيام بالسيطرة عليها فجر يوم 5/7/1963.
كما تم وضع خطة بديلة إذا تعذر السيطرة على دار الإذاعة، وكانت الخطة تقتضي بالاستيلاء على محطة الكهرباء المحاذية لمعمل الأسلحة والمعادن حيث يمكن إذاعة البيان من مرسلة إذاعية موجودة داخل محطة الكهرباء الوطنية.
كانت لدى الحزب خطة محكمة، وعلى نطاق واسع، ويشارك فيها رفاق ومناصرون من قطعات أخرى، وكان الجميع بانتظار أن يطلق سراح الضباط في سجن رقم واحد في معسكر الرشيد ليتولوا قيادة القطعات التي أبدت كامل استعداها للمشاركة في الانتفاضة.
لكن محمد حبيب بدأ يتهرب من اللقاء مع إبراهيم في الأيام الأخيرة التي سبقت تنفيذ الانتفاضة ، وبات واضحا أنه أراد الانشقاق عن الحزب والاستئثار بالحركة لنفسه ، ومن وراء ظهر المجموعة المنفذة بقيادة الشهيد حسن سريع ، فأقدم على تغيير موعد تنفيذ الانتفاضة المقرر في 5 تموز إلى يوم 3 تموز، مدعيا أن ذلك قد تم بأمر الحزب ، وقد تسبب محمد حبيب بعمله هذا إلى تصفيه خيرة قيادات وكوادر وقواعد الحزب.
حسن سريع قائد الانتفاضة:
كان حسن سريع على رأس تلك المجموعة المناضلة والمفعمة بالأيمان بقدرتها على خلق المعجزات، والتصدي لطغيان العصابة التي اغتصبت السلطة في انقلاب 8 شباط الفاشي في ذلك العام 1963 ودحرها ، وعلى الرغم من كونها مجموعة من بقايا خلايا الحزب الشيوعي التي سلمت من الانكشاف والاعتقال والسجون والقتل، آلت على نفسها أن تناضل لإسقاط سلطة البعث، ذلكم هو الرجل الشجاع أبن الخامسة والعشرين الشهيد البطل [حسن سريع].شاب نحيف متوسط البنية ذو سحنة سمراء وعينان صغيرتان سوداوان، من مواليد قضاء شثاثة [ عين التمر] في أوائل الأربعينات، و ينتمي إلى عائلة من بني حجام القادمة من مدينة السماوة، ويرى البعض من رفاقه أنه من آل الأزيرج المعروفة بمواقفها الوطنية الشجاعة.
ويصفونه رفاقه الذين ساهموا في انتفاضة معسكر الرشيد أنه كان ذو شخصية فذة، ومحترم جداً في وحدته العسكرية من قبل الجميع بما فيهم الأعلى منه رتبة حيث تمييز بالقدرة الفائقة على الحوار والإقناع والتمسك بالصدق في القول ، والعمل ، حافظاً لوعوده ، حريصاً على
أسرار حزبه ورفاقه الذين شاركوه في تلك الانتفاضة الشجاعة.
درس الشهيد حسن سريع الابتدائية في شثاثة، وبسبب الوضع الاقتصادي الصعب لعائلته الكادحة تطوع للجيش بمدرسة قطع المعادن المهنية بمعسكر الرشيد في بغداد، ولذكائه الوقاد، وخلقه العالي جرى اختياره معلماً في نفس المدرسة، ورُفع على رتبة نائب عريف ، وفي الوقت نفسه التحق بالثانوية المسائية لإكمال دراسته وتطوير مستواه العلمي.
انطلاق الانتفاضة:
كان القائد الثوري الميداني الشهيد حسن سريع قد استطاع بجهاديته ونشاطه الدؤوب تجميع وتهيئة العناصر التي أبدت استعدادها للمشاركة في الانتفاضة مع علمها الأكيد بالمخاطر التي تنتظرهم سواء خلال تنفيذ الانتفاضة التي لا بد أن يسقط فيها الضحايا، أو في حالة فشلها، لكن الروح الثورية التي كانت عامرة بها نفوسهم الجريئة هي التي قادت اندفاعهم لتنفيذ الانتفاضة بكل جرأة ورباطة جأش.
لقد كانت الانتفاضة تحرك ثوري جرئ ينطوي على مهاجمة معسكر الرشيد القريب من بغداد والسيطرة عليه، وإطلاق سراح الضباط الشيوعيين والقاسميين والديمقراطيين المعتقلين في سجن رقم واحد داخل المعسكر، وكان عددهم يقدر بأكثر من 1300 ضابط من مختلف الرتب والأصناف، بينهم مجموعة كبيرة من الطيارين، وكان إطلاق سراحهم وسيطرتهم على المعسكر وقاعدته الجوية يمكن أن يقلب موازين القوى ويقتلع حكم البعث، ذلك أن الجنود وضباط الصف ، كانوا لا يدينون بالولاء لتلك السلطة الغاشمة، التي أغرقت العراق بالدماء، بل كانوا على العكس من ذلك يدينون بالولاء لثورة الرابع عشر من تموز التي أغتالها الانقلابيون، وقائدها الزعيم عبد الكريم قاسم.
كان تحرير الضباط من السجن، وقيادتهم للجنود وضباط الصف، والعديد من الضباط ذوي الرتب الصغيرة الذين لم يكشفهم الانقلابيون والاستيلاء على قاعدة الرشيد الجوية، يشكل تهديداً خطيراً لسلطة الانقلابيين. وبالفعل تهيأت تلك المجموعة للعمل في فجر 3 تموز 1963، وتحت جنح الظلام تحرك قائد المجموعة ورفاقه من جنود وضباط صف المدرسة المهنية العسكرية، ومجموعة من المدنيين الذين كانوا قد لبسوا الملابس العسكرية، وحمل بعضهم رتب الضباط، والتحق بهم مجموعة أخرى من الجنود وضباط الصف من وحدات أخرى منطلقين نحو كتيبة الهندسة، وعندما أصبحت المجموعة قريبة جداً من باب الحرس صرخ حسن سريع بأعلى صوته داعياً الحرس إلى إلقاء أسلحتم، وفوجئ الحرس بمشاهدة مجاميع من الجنود المسلحين تتقدم نحوهم فأسرعوا إلى إلقاء السلاح وأعلنوا استسلامهم.
واندفعت القوة التي يقودها حسن سريع لتسيطر بسرعة خاطفة على كتيبة الهندسة، ومن ثم السيطرة على أغلب أقسام معسكر الرشيد حيث يضم أكبر قوة عسكرية في بغداد، وحيث تضم القاعدة الجوية بطائراتها أعداداً كبيرة من الدبابات والمدرعات، وتمكنت المجموعة من اعتقال وزير الخارجية [طالب شبيب] ووزير شؤون رئاسة الجمهورية [حازم جواد] والقائد العام للجيش الشعبي [منذر الونداوي ]،حيث كانوا متواجدين داخل المعسكر آنذاك، واعتقال عدد من الضباط الموالين لسلطة البعث، وقاموا بتجهيز عدد من الطائرات بالعتاد انتظاراً لتحرير الضباط الشيوعيين والقاسميين من سجن رقم واحد ، وكان من بينهم العديد من الطيارين، و ضباط من مختلف الصنوف العسكرية .
كانت المجموعة الشجاعة تلك تعوّل على تحرير الضباط السجناء ليتولوا قيادة القطعات العسكرية في معسكر الرشيد والمعسكرات الأخرى في التاجي وأبو غريب والمحاويل، وكان في تلك المعسكرات مجموعات كبيرة من الجنود وضباط الصف المستعدين للقيام بمهماتهم في اللحظة الحاسمة، وكان قد جرى تبليغهم بساعة الصفر التي تبدأ حال وصول الضباط المطلق سراحهم من السجن لتلك الوحدات.
كما أجرت الحركة اتصالات مع العديد من التنظيمات الشيوعية في بغداد والفرات الأوسط ، وبعض المحافظات الأخرى، وكانت المجموعة يحدوها الأمل الكبير في انضمام الجنود وضباط الصف الذين كانوا يدينون بالولاء لثورة 14 تموز، وللزعيم عبد الكريم قاسم، وكانت الحركة من التنظيم والتصميم والاندفاع والشجاعة ما يؤهلها لتحقيق النصر لو تمكنت من تحرير الضباط من السجن داخل المعسكر.
لكن تخاذل قائد الدبابة الوحيدة المتقدمة نحو باب السجن، والتي كان يقودها الجندي [ خلف شلتاغ]، ودفاع قوة حراسة السجن المستميتة هي التي أخرت كسر أبواب السجن وإطلاق سراح الضباط ، وأعطت الفرصة للسلطة لجلب قوات كبيرة مجهزة بأسلحة ثقيلة من خارج المعسكر، حيث اشتبكت تلك القوات مع المجموعة الثورية المهاجمة ، ودارت معركة شرسة بين الطرفين قبل تمكن المجموعة من كسر باب السجن لتحرير الضباط .
إجهاض الانتفاضة:
و بسبب عدم وجود أي تكافئ بين الطرفين من جهة، واعتماد المجموعة على الأسلحة الخفيفة من جهة أخرى استطاع انقلابيو شباط إجهاض الانتفاضة، بعد استشهاد عدد كبير منهم، وتم اعتقال ما تبقى من المجموعة، حيث نقلوا إلى مقر هيئة الحقيق لزمرة وناظم كزار، وعمار علوش، وخالد طبرة وغيرهم من القتلة حيث تعرضوا لصنوف من التعذيب الوحشي على أيديهم، واستشهد قسم منهم، وأحيل القسم الآخر إلى المجلس العرفي العسكري الذي حكم عليهم بالإعدام، وتم تنفيذ الحكم بهم، وكان على رأس المعدومين القائد الشجاع حسن سريع.
قطار الموت:
على أثر فشل انتفاضة معسكر الرشيد جرت المداولات بشأن الضباط المعتقلين، وقد أصر عبد الغني الراوي، وصالح مهدي عماش والعديد من الضباط معهم على تنفيذ حكم الإعدام بهم والتخلص منهم مرة وإلى الأبد.إلا أن الرأي استقر في النهاية على قتلهم بطريقة إجرامية أخرى.
بادرت السلطة الفاشية بنقل كافة الضباط المعتقلين إلى سجن [نقرة السلمان] الواقع في البادية الجنوبية حيث تم حشرهم في عربات الحمل الحديدية التي ليس فيها أي تهوية، وفي ذلك الشهر الشديد الحرارة من أشهر الصيف، وكان الفاشيون يرمون بذلك إلى القضاء عليهم بسبب شدة الحرارة، وفقدانهم للسوائل، ولولا شهامة سائق القطار الذي علم بأن ما تحمله عربات النقل هم الضباط المعتقلين من شيوعيين وقاسميين، وقاد القطار بأسرع ما يمكن حتى مدينة السماوة لكان هلك الجميع .
كما كان للموقف الوطني البطولي لأبناء السماوة، رغم أنف جلاوزة السلطة، الذين استقبلوا المعتقلين، وقدموا لهم المياه واللبن والملح للتعويض عن السوائل المفقودة لكان الكثير منهم قد هلك، فقد كان المعتقلون في وضع خطير جداً، وقد تم بعد ذلك نقل المعتقلين بواسطة السيارات إلى سجن نقرة السلمان، في وسط الصحراء بعيداً عن أهلهم وذويهم .
الفاشيون يشنون حملة شعواء على الشيوعيين:
اندفعت قطعان الفاشست من عصابات الحرس القومي بعد إجهاض انتفاضة الرشيد ضد انقلابيي 8 شباط في حملة محمومة ضد العناصر الشيوعية التي ساهمت في الإعداد وتنفيذ الانتفاضة في الثالث من تموز من ذلك العام ، وضد من تبقى من العناصر القيادية والكوادر الحزبية، فقد تمكنت تلك العصابات من الوصول إلى الشهداء [ جمال الحيدري ] و [محمد صالح العبلي ] [عبد الجبار وهبي]ـ أبو سعيد ، وتمت تصفيتهم تحت التعذيب الشنيع.
كنا في تلك الليلة أنا وزوجتي والشهيد إبراهيم وزوجته جالسين أمام التلفاز نستمع إلى الأخبار، وقد اشتد بنا الحزن لفقد الرفاق، وقد تصاعدت بنا المخاطر من كل جانب. كانت ليلة الثامن عشر من تموز عام 1963 أشبه بكابوس رهيب، فقد اشتدت الحملة الفاشية ضد الشيوعيين، ولاسيما أن كلانا بالإضافة إلى زوجة إبراهيم ملاحقين منذ اليوم الأول لوقوع الانقلاب المشؤوم. ورغم صعوبة تلك الظروف والمخاطر المحدقة بنا في كل لحظة، أبلغني الشهيد إبراهيم في تلك الليلة بأنه سوف يخرج في الصباح لمدة ساعتين في مهمة عاجلة، ثم سكت برهة، وعاد ليقول لي أن خروجي كما تعلم فيه الكثير من المخاطر، أنا معروف في بغداد، ولاسيما من بعض العناصر التي انهارت وتعاونت مع البعثيين، أما أنت فلست معروفاً هنا ولم يسبق لك العمل الحزبي في بغداد، ولذلك ومن أجل الصيانة فيما إذا حدث أمر ما لي فإني سأقول أنكم جئتم إلى بغداد كضيوف عندنا لتباركوا لنا زواجنا، أرجو أن تؤكد كلامي هذا وتصر عليه. في تلك اللحظة شعرت لأول مرة أن الخطر سيداهمنا، وشعرت بثقل تلك الليلة، ويبدو أن الشهيد كان لديه نفس الشعور.
التفت إلى إبراهيم قائلاً: أرجوك يا إبراهيم إن لم تكن هناك ضرورة ملحة للخروج أن لا تخرج، فالظرف عصيب، والحملة البعثية على أشدها لملاحقة الشيوعيين الذين لا زالوا طليقين، لكنه أجابني على الفور أنه لا بد من الخروج لأمر ضروري، وأرجو أن لا تقلق أبداً، وكل ما قلته لك هو من باب الاحتياط ليس إلا.
وفي صباح اليوم التالي خرج إبراهيم مبكراً، وقد استبد بنا القلق، وحاولت أن أكتم قلقي عن زوجتي، لكني لم استطع إخفاء ذلك، ومرت الساعتين ولم يعد إبراهيم، وهو المعروف بدقة مواعيده، وبدأنا أنا وزوجتي، حيث كانت زوجته قد خرجت لمراجعة الطبيب، نعد الدقائق والثواني ونحن على أحر من الجمر، ومرت ساعة أخرى ولم يعد إبراهيم، كانت تلك الساعة كأنها سنوات طويلة، وتصاعد شعورنا بالقلق عليه، إن مواعيده مضبوطة، لا بد أن أمراً ما قد حصل له، وبينما نحن على تلك الحال وإذا بطرقات شديدة ومتتالية على الباب، واشتد القلق بنا من يا ترى هو الطارق؟ . تقدمت نحو الباب قائلاً من الطارق؟ وإذا بصوت إبراهيم يخرج من فمه بصعوبة بالغة دلت على أنه في وضع سيئ جداً، وفتحت الباب ويالهول ما رأيت، إبراهيم مكبل بالحديد، وقد غطت جسمه الدماء من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، وهو لا يقوى على الوقوف والكلام، وحوله ما يزيد على عشرة من قطعان الفاشست أفراد الحرس القومي، وقد شهروا رشاشاتهم بوجوهنا مما أرعب أطفالي، وجعلهم يصرخون عندما شاهدوا إبراهيم على تلك الحال.
سارعت زوجتي للتخلص من هويتي المزورة حيث استطاعت تمزيقها ورميها في المرافق، وأخذ الفاشست يفتشون الدار حيث قلبوا أثاثه رأساً على عقب بحثاً عن أية أدلة أو مستمسكات حزبية، وطلبوا مني أن أرافقهم مع إبراهيم، وهكذا أصبحت حياتنا معلقة على شعرة دقيقة. وفي تلك الأثناء صادفت عودة زوجة إبراهيم من المستشفى، وما أن اقتربت من الدار، ووجدت أن الوضع غير طبيعي حوله حتى استدارت عائدة لكي لا يراها أحد، فقد كانت هي الأخرى مطلوبة للقبض عليها.
لكن عصابة الفاشست لمحتها وهي ترجع هاربة من براثنهم فلحقوا بها واستطاعت الإفلات منهم في بادئ الأمر حيث تمكنت من ركوب حافلة الركاب، لكنهم لحقوا بالحافلة، وأمروا السائق بالتوقف، وصعدوا إلى الحافلة والقوا القبض عليها، وقد تعرضت للتعذيب الشنيع على أيديهم القذرة لفترة طويلة في ملعب الإدارة المحلية بالمنصور الذي اتخذه البعثيون سجنا للنساء، فقدت على أثرها الجنين الذي كان سيحمل اسم الشهيد إبراهيم، فقد أجهضت بسبب التعذيب الذي تعرضت له، وأحيلت إلى المجلس العرفي العسكري الذي حكم عليها بالسجن لمدة 7 سنوات ومراقبة الشرطة لمدة سنتين، ولم يطلق سراحها إلا في عهد عبد الرحمن عارف حيث استدعاها رئيس الوزراء آنذاك طاهر يحيى، وبعد نقاش حامٍ معها أوعز طاهر يحيى بإطلاق سراها على أن تخضع لمراقبة الشرطة المحكومة بها وأمدها سنتين.
وقبل أن يأخذنا الحرس القومي معهم، طلبوا من زوجتي إخلاء الدار وتسليم مفاتيحه لهم، حيث أمروا اثنان من المجموعة البقاء والمبيت في الدار ظننا منهم أن الدار وكر حزبي، على أمل إلقاء القبض على من يتردد على الدار، تم جرى نقلنا إلى مقر هيئة التحقيق البعثية التي كان يشرف عليها[ ناظم كزار] و[عمار علوش] و[خالد طبرة] و[عباس الخفاجي] وهو شيوعي مرتد تعاون مع البعثيين، ومارس أشد أنواع التعذيب مع رفاق حزبه، وكان البعثيون قد اتخذوا مقر محكمة الشعب لتكون مقراً للهيئة التحقيقية، ومركزاً للتعذيب والقتل الذي مارسوه ضد العناصر الشيوعية.
وعند وصولنا إلى المقر استقبلنا الجلاد [ناظم كزار] الذي عرفت اسمه من المعتقلين، حيث تم إدخالنا غرفة التعذيب. كان في وسط الغرفة رجل فاقد الوعي ممداً على الأرض، وفي الحال التفت نحوي ناظم كزار قائلاً: هل تعرف هذا؟ مشيراً للشخص الممد على الأرض، وقد أجبته على الفور: ومن أين لي بمعرفته؟ لكنه فأجابني بأن هذا هو [أبو سلام]. وقد أجبته على الفور : ومن هو أبو سلام ؟ وجاء جوابه ضربة شديدة على رأسي وهو يصرخ كالثور الهائج: ألا تعرف من هو أبو سلام ؟ ألم تسمع بحركة الرشيد؟ وقد أجبته نعم لقد سمعت بما جرى في معسكر الرشيد، لكني لا أعرف من هو أبو سلام، ولا اسكن أنا في بغداد، وليس عندي أي علاقة بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد، وكل ما في الأمر أن شقيقة زوجتي قد تزوجت، وقد جئت بصحبة زوجتي مع أطفالنا لمباركة زواجها والعودة من حيث أتينا. . كان علي أن أعمل جهدي على إقناعهم بأني لا صلة لي بالسياسة والأحزاب لكي أنفذ بجلدي من مجزرة هؤلاء المجرمين، وفي حقيقة الأمر فقد كان علي أمراً بإلقاء القبض، ولوا أنهم سألوا عني من أي جهة أمنية لكان مصيري كمصير إبراهيم. في تلك اللحظة التفت ناظم كزار إلى عباس الخفاجي قائلاً له : خذه إلى الموقف فإن قضيته متعلقة بقضية إبراهيم محمد علي وتم نقلي إلى إحدى غرف التوقيف، كان هناك ثلاثة غرف وكل غرفة تضم ما يزيد على الأربعين موقوفاً وهم جميعاً من المشاركين في انتفاضة الرشيد، وأنا الشخص الغريب بينهم، وكل ما يعرفونه عني أنني قد اعتقلت مع إبراهيم محمد علي. كانت الغرفة مكتظة بالموقوفين في ذلك الصيف الحار حيث يتعذر على الإنسان أن يجد له مكاناً كافياً لكي يتمدد أو ينام، وكانوا يخرجونا مرة واحدة يومياً للمرافق على أن لا تتجاوز حصة كل واحد في المرافق عن الخمس دقائق، حيث يهجم الحرس على من يتأخر بأعقاب البنادق، ويمعنون بنا ضرباً.
أما الشهيد إبراهيم فقد أبقوه في غرفة التعذيب الرهيبة وهو في حالة يرثى لها، وبدءوا بممارسة أشد أنواع التعذيب بغية الحصول منه على أي اعتراف، ولاسيما وأن محمد حبيب [ أبو سلام ] كان قد اعترف لهم أنه مسئوله الحزبي، واستمروا في ضربه حتى فقد الوعي. . كان هناك أحد أفراد الحرس، وعلى ما أعتقد كان اسمه صبار، يتردد علينا في الموقف، وأثناء خروجنا إلى المرافق، كان يبدو عليه الطيب، لكنه كان حذراً جداً من الحديث مع الموقوفين، حيث استطاع أن يحدثني بضع كلمات فقط عن إبراهيم قائلا لي: [إنه صلب وشجاع، لم يحصلوا منه على كلمة واحدة، لكن حياته في خطر، لقد كسروا أضلاعه وأطرافه.
وفي اليوم الثالث استطاع الهمس في أذني:[إبراهيم قضى بطلاً وقطعت أوصاله، والقيت في نهر دجلة]. لم استطع تحمل الصدمة، وبدأت الأرض تدور من حولي، وانهالت الدموع من عيناي وأنا لا أستطيع أن افعل شيئاً، يا لهول الصدمة، ويا لعظم الخسارة، أي نوع من الوحوش هذه الزمرة التي لا تعرف معنى لحقوق الإنسان!!. لقد انقطع الخيط الذي كان القتلة يريدون من خلاله التوصل إلى حقيقة علاقتي بإبراهيم فكان صموده وبطولته الخارقة هي العامل الحاسم في إنقاذي من أيدي الجلادين البعثيين الفاشست، وبقائي على قيد الحياة. أما الشهيد إبراهيم فستبقى ذكراه خالدة في ذاكرتي ما حييت كإنسان نبيل ، ومناضل شجاع صمد تحت أيدي جلاديه حتى الموت دون أن ينطق بكلمة واحدة عن أسرار الحزب، وبذلك أنقذ الكثير من رفاق الحزب من الوقوع في أيدي الجلادين.
ملاحظة: للمزيد من المعلومات يمكن مراجعة كتابي [سنوات الجحيم]على الصفحة الرئيسية :
4/7/2008
بعد وقوع انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، وحملة التنكيل بالحزب الشيوعي، واستشهاد الكثير من قياداته وكوادره ورفاقه ، وبعد امتصاص تلك الضربة الموجعة التي وجهها الانقلابيون له، بدأ الشيوعيون الناجون من الاعتقال تجميع صفوفهم وتنظيمها من جديد، وكان هناك عدد من قياديي وكوادر الحزب مازالوا طليقين، قسم منهم لم يكن مكشوفاً، وقسم آخر كان في الاختفاء. وأخذ يعمل في الخفاء، وكان من بين الناجين من قيادة الحزب الشهداء [محمد صالح العبلي] و[جمال الحيدري] و[عبد الجبار وهبي] .
بدأ أولئك القادة حملة نشيطة لإعادة بناء الحزب من جديد، والنضال ضد الانقلابيين، وكانت هناك مجموعة كبيرة من العناصر الثورية الجريئة في صفوف الحزب، مستعدة لكل التضحيات في سبيل القضية التي ناضلوا من أجلها.
كما كان من بين الكوادر المتقدمة في الحزب التي استطاعت النجاة من الاعتقال الشهيد[إبراهيم محمد علي] من مدينة مخمور، عضو اللجنة العمالية المركزية للحزب المتصلة مباشرة باللجنة المركزية للحزب الشيوعي، والتي تمثل العمود الفقري لتنظيمات الحزب، حيث كانت تدير أكثر من 50 نقابة عمالية في كافة المشاريع الكبيرة والصغيرة في مختلف أنحاء العراق.
كان إبراهيم كادراً حزبيا بارزا عمل في المنظمات العمالية والفلاحية في كردستان العراق، ثم انتقل إلى بغداد واحترف العمل الحزبي تحت الاسم المستعار[ جهاد]، وعمل في الوقت نفسه ملاحظا في مطبعة الرابطة بالعيواضية العائدة للشخصية السياسية البارزة [ عبد الفتاح إبراهيم ]، وهي من كبريات المطابع في بغداد ، وقد استطاع إبراهيم بخلقه وإخلاصه في عمله من كسب محبة وثقة الأستاذ عبد الفتاح إبراهيم الذي صار يأتمنه في كل صغيرة وكبيرة.
وفي الوقت نفسه حل محل الرفيق [مهدي أحمد الرضي] بمسؤولية هيئة المشاريع الصغرى لتنظيم الحزب الشيوعي ، حيث كلف الحزب مهدي الرضي، مسؤول اللجنة، بتولي مسؤولية مطابع الحزب السرية بناء على توصية أخيه سلام عادل ، وكان مهدي الرضي هو الذي رشح شخصيا إبراهيم لهذه المهمة.
عمل الشهيد إبراهيم جاهدا في ظل تلك الظروف القاسية والخطير من أجل ربط خلايا الحزب وإعادة التنظيم في الخط العمالي من جهة، وإعادة ربطها بقيادة الحزب المذكورة آنفاً من جهة أخرى، والتي كانت السبب في وقوعه في الفخ الذي نصبته له عصابات الحرس القومي بعد القبض على محمد حبيب، واعترافه بكون إبراهيم محمد علي هو مسؤوله الحزبي الذي يقود التنظيم.
وبحكم كون إبراهيم محمد علي مسؤولاً عن اللجنة العمالية الثالثة فقد كان المسؤول الحزبي لمحمد حبيب المسمى بأبي سلام، وعلى صلة مباشرة به، وكان محمد حبيب مسؤولاً حزبياً عن المجموعة الصِدامية الشجاعة التي قادت ونفذت انتفاضة معسكر الرشيد في الثالث من تموز عام 1963، بقيادة المناضل الجسور[حسن سريع] ، وكان إبراهيم يلتقي به في دار الكادر الحزبي [ خضير] بالقرب من ساحة الوثبة.
لقد شاءت الظروف أن تجمعني بالشهيد إبراهيم علاقة عائلية وثيقة، حيث كان قد تزوج شقيقة زوجتي قبيل انقلاب 8 شباط بوقت قصير، ولكني لم تتح لي الفرصة للالتقاء به إلا بعد الانقلاب، حيث كنت أمارس التعليم في مدينة السليمانية، وصدر بحقي إلقاء القبض في اليوم الأول لانقلاب شباط 63، وفصلت من الوظيفة. لكني استطعت النجاة من الاعتقال، ومكثت في السليمانية متخفيا حتى العشرين من حزيران، واضطررت إلى مغادرة السليمانية إلى بغداد بعد اندلاع الحرب في كردستان بمساعدة الرفاق الأكراد .
لم يكن لدي ملجأ آمن في بغداد، وقد استطاعت زوجتي الوصول إلى شقيقتها رهبية وزوجها الشهيد إبراهيم حيث كانا مختفيان في دار شقيقه إسماعيل محمد علي، وعلى الفور دعانا للقدوم بشكل مؤقت ريثما يستطيع تأمين استئجار دار لنعيش فيه مختفين معا . كانت معي زوجتي وطفلاتي الثلاث، واستطاع إسماعيل محمد علي ـ شقيق إبراهيم ـ أن يستأجر لنا داراً في الصليخ الجديدة بالقرب من دار أهل زوجتي، حيث انتقلنا إليه وكانت فرحتنا به كبيرة جداً، حيث استطعنا تحقيق الاستقلال دون أن نثقل على أحد أو نجلب المخاطر لأحد.
ورغم صعوبة تلك الظروف والمخاطر المحدقة بنا في كل لحظة، فقد عشنا أياماً كنت خلالها اكتشف كل يوم صفات وخلق وشجاعة ذلك الإنسان النبيل الذي اتصف بالبساطة، وسمو الخلق، والروح الجهادية العالية، والإيمان بالمبادئ، والاستعداد للتضحية اللامتناهي.
لقد حدثني الشهيد إبراهيم عن تفاصيل الإعداد لحركة ثورية واسعة تطيح بحكم حزب البعث الفاشي كان من المقرر تنفيذها في 5 تموز، وتقتضي الخطة بالسيطرة على معسكر الرشيد والقاعدة الجوية فيه، وإطلاق سراح الضباط المعتقلين في سجن رقم واحد في المعسكر المذكور، وهذا الدور كان قد أنيط سياسيا بمحمد حبيب، وتنفيذيا بقيادة المناضل الشجاع حسن سريع .
وكانت هناك مجموعة داعمة كان من المفترض إن تعمل خارج معسكر الرشيد ، وكانت صلاتها مع الحزب، وكان صلة الوصل بينها وبين الحزب احد الرفاق من أهالي تلعفر يدعى عباس التركماني، وهو عامل في معمل الدرزي وبرايا للكاشي والموزائيك في منطقة النعيرية والقيارة قرب معسكر الرشيد وقاعدة الرشيد الجوية، وفي منطقة كمب سارة الملاصقة لمعسكر الرشيد التي كان يسكن فيها قائد الحزب الشهيد [جمال الحيدري] الذي كان يتابع بنفسه نشاط جماهير الحزب في منطقة الصرائف قرب نهر دجلة، ومعمل الزيوت النباتية شمال معسكر الرشيد، والتي كان يسكنها آلاف العوائل الفقيرة، وهم في غالبيتهم يشكلون جماهير الحزب، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من أبناء عشيرة البو عامر قرب المحمودية.
كانت ساعة الصفر هي إذاعة البيان الأول للانتفاضة من إذاعة بغداد حيث كان لدى الحزب مجموعة من الجنود المكلفين بحراسة دار الإذاعة مستعدين للقيام بالسيطرة عليها فجر يوم 5/7/1963.
كما تم وضع خطة بديلة إذا تعذر السيطرة على دار الإذاعة، وكانت الخطة تقتضي بالاستيلاء على محطة الكهرباء المحاذية لمعمل الأسلحة والمعادن حيث يمكن إذاعة البيان من مرسلة إذاعية موجودة داخل محطة الكهرباء الوطنية.
كانت لدى الحزب خطة محكمة، وعلى نطاق واسع، ويشارك فيها رفاق ومناصرون من قطعات أخرى، وكان الجميع بانتظار أن يطلق سراح الضباط في سجن رقم واحد في معسكر الرشيد ليتولوا قيادة القطعات التي أبدت كامل استعداها للمشاركة في الانتفاضة.
لكن محمد حبيب بدأ يتهرب من اللقاء مع إبراهيم في الأيام الأخيرة التي سبقت تنفيذ الانتفاضة ، وبات واضحا أنه أراد الانشقاق عن الحزب والاستئثار بالحركة لنفسه ، ومن وراء ظهر المجموعة المنفذة بقيادة الشهيد حسن سريع ، فأقدم على تغيير موعد تنفيذ الانتفاضة المقرر في 5 تموز إلى يوم 3 تموز، مدعيا أن ذلك قد تم بأمر الحزب ، وقد تسبب محمد حبيب بعمله هذا إلى تصفيه خيرة قيادات وكوادر وقواعد الحزب.
حسن سريع قائد الانتفاضة:
كان حسن سريع على رأس تلك المجموعة المناضلة والمفعمة بالأيمان بقدرتها على خلق المعجزات، والتصدي لطغيان العصابة التي اغتصبت السلطة في انقلاب 8 شباط الفاشي في ذلك العام 1963 ودحرها ، وعلى الرغم من كونها مجموعة من بقايا خلايا الحزب الشيوعي التي سلمت من الانكشاف والاعتقال والسجون والقتل، آلت على نفسها أن تناضل لإسقاط سلطة البعث، ذلكم هو الرجل الشجاع أبن الخامسة والعشرين الشهيد البطل [حسن سريع].شاب نحيف متوسط البنية ذو سحنة سمراء وعينان صغيرتان سوداوان، من مواليد قضاء شثاثة [ عين التمر] في أوائل الأربعينات، و ينتمي إلى عائلة من بني حجام القادمة من مدينة السماوة، ويرى البعض من رفاقه أنه من آل الأزيرج المعروفة بمواقفها الوطنية الشجاعة.
ويصفونه رفاقه الذين ساهموا في انتفاضة معسكر الرشيد أنه كان ذو شخصية فذة، ومحترم جداً في وحدته العسكرية من قبل الجميع بما فيهم الأعلى منه رتبة حيث تمييز بالقدرة الفائقة على الحوار والإقناع والتمسك بالصدق في القول ، والعمل ، حافظاً لوعوده ، حريصاً على
أسرار حزبه ورفاقه الذين شاركوه في تلك الانتفاضة الشجاعة.
درس الشهيد حسن سريع الابتدائية في شثاثة، وبسبب الوضع الاقتصادي الصعب لعائلته الكادحة تطوع للجيش بمدرسة قطع المعادن المهنية بمعسكر الرشيد في بغداد، ولذكائه الوقاد، وخلقه العالي جرى اختياره معلماً في نفس المدرسة، ورُفع على رتبة نائب عريف ، وفي الوقت نفسه التحق بالثانوية المسائية لإكمال دراسته وتطوير مستواه العلمي.
انطلاق الانتفاضة:
كان القائد الثوري الميداني الشهيد حسن سريع قد استطاع بجهاديته ونشاطه الدؤوب تجميع وتهيئة العناصر التي أبدت استعدادها للمشاركة في الانتفاضة مع علمها الأكيد بالمخاطر التي تنتظرهم سواء خلال تنفيذ الانتفاضة التي لا بد أن يسقط فيها الضحايا، أو في حالة فشلها، لكن الروح الثورية التي كانت عامرة بها نفوسهم الجريئة هي التي قادت اندفاعهم لتنفيذ الانتفاضة بكل جرأة ورباطة جأش.
لقد كانت الانتفاضة تحرك ثوري جرئ ينطوي على مهاجمة معسكر الرشيد القريب من بغداد والسيطرة عليه، وإطلاق سراح الضباط الشيوعيين والقاسميين والديمقراطيين المعتقلين في سجن رقم واحد داخل المعسكر، وكان عددهم يقدر بأكثر من 1300 ضابط من مختلف الرتب والأصناف، بينهم مجموعة كبيرة من الطيارين، وكان إطلاق سراحهم وسيطرتهم على المعسكر وقاعدته الجوية يمكن أن يقلب موازين القوى ويقتلع حكم البعث، ذلك أن الجنود وضباط الصف ، كانوا لا يدينون بالولاء لتلك السلطة الغاشمة، التي أغرقت العراق بالدماء، بل كانوا على العكس من ذلك يدينون بالولاء لثورة الرابع عشر من تموز التي أغتالها الانقلابيون، وقائدها الزعيم عبد الكريم قاسم.
كان تحرير الضباط من السجن، وقيادتهم للجنود وضباط الصف، والعديد من الضباط ذوي الرتب الصغيرة الذين لم يكشفهم الانقلابيون والاستيلاء على قاعدة الرشيد الجوية، يشكل تهديداً خطيراً لسلطة الانقلابيين. وبالفعل تهيأت تلك المجموعة للعمل في فجر 3 تموز 1963، وتحت جنح الظلام تحرك قائد المجموعة ورفاقه من جنود وضباط صف المدرسة المهنية العسكرية، ومجموعة من المدنيين الذين كانوا قد لبسوا الملابس العسكرية، وحمل بعضهم رتب الضباط، والتحق بهم مجموعة أخرى من الجنود وضباط الصف من وحدات أخرى منطلقين نحو كتيبة الهندسة، وعندما أصبحت المجموعة قريبة جداً من باب الحرس صرخ حسن سريع بأعلى صوته داعياً الحرس إلى إلقاء أسلحتم، وفوجئ الحرس بمشاهدة مجاميع من الجنود المسلحين تتقدم نحوهم فأسرعوا إلى إلقاء السلاح وأعلنوا استسلامهم.
واندفعت القوة التي يقودها حسن سريع لتسيطر بسرعة خاطفة على كتيبة الهندسة، ومن ثم السيطرة على أغلب أقسام معسكر الرشيد حيث يضم أكبر قوة عسكرية في بغداد، وحيث تضم القاعدة الجوية بطائراتها أعداداً كبيرة من الدبابات والمدرعات، وتمكنت المجموعة من اعتقال وزير الخارجية [طالب شبيب] ووزير شؤون رئاسة الجمهورية [حازم جواد] والقائد العام للجيش الشعبي [منذر الونداوي ]،حيث كانوا متواجدين داخل المعسكر آنذاك، واعتقال عدد من الضباط الموالين لسلطة البعث، وقاموا بتجهيز عدد من الطائرات بالعتاد انتظاراً لتحرير الضباط الشيوعيين والقاسميين من سجن رقم واحد ، وكان من بينهم العديد من الطيارين، و ضباط من مختلف الصنوف العسكرية .
كانت المجموعة الشجاعة تلك تعوّل على تحرير الضباط السجناء ليتولوا قيادة القطعات العسكرية في معسكر الرشيد والمعسكرات الأخرى في التاجي وأبو غريب والمحاويل، وكان في تلك المعسكرات مجموعات كبيرة من الجنود وضباط الصف المستعدين للقيام بمهماتهم في اللحظة الحاسمة، وكان قد جرى تبليغهم بساعة الصفر التي تبدأ حال وصول الضباط المطلق سراحهم من السجن لتلك الوحدات.
كما أجرت الحركة اتصالات مع العديد من التنظيمات الشيوعية في بغداد والفرات الأوسط ، وبعض المحافظات الأخرى، وكانت المجموعة يحدوها الأمل الكبير في انضمام الجنود وضباط الصف الذين كانوا يدينون بالولاء لثورة 14 تموز، وللزعيم عبد الكريم قاسم، وكانت الحركة من التنظيم والتصميم والاندفاع والشجاعة ما يؤهلها لتحقيق النصر لو تمكنت من تحرير الضباط من السجن داخل المعسكر.
لكن تخاذل قائد الدبابة الوحيدة المتقدمة نحو باب السجن، والتي كان يقودها الجندي [ خلف شلتاغ]، ودفاع قوة حراسة السجن المستميتة هي التي أخرت كسر أبواب السجن وإطلاق سراح الضباط ، وأعطت الفرصة للسلطة لجلب قوات كبيرة مجهزة بأسلحة ثقيلة من خارج المعسكر، حيث اشتبكت تلك القوات مع المجموعة الثورية المهاجمة ، ودارت معركة شرسة بين الطرفين قبل تمكن المجموعة من كسر باب السجن لتحرير الضباط .
إجهاض الانتفاضة:
و بسبب عدم وجود أي تكافئ بين الطرفين من جهة، واعتماد المجموعة على الأسلحة الخفيفة من جهة أخرى استطاع انقلابيو شباط إجهاض الانتفاضة، بعد استشهاد عدد كبير منهم، وتم اعتقال ما تبقى من المجموعة، حيث نقلوا إلى مقر هيئة الحقيق لزمرة وناظم كزار، وعمار علوش، وخالد طبرة وغيرهم من القتلة حيث تعرضوا لصنوف من التعذيب الوحشي على أيديهم، واستشهد قسم منهم، وأحيل القسم الآخر إلى المجلس العرفي العسكري الذي حكم عليهم بالإعدام، وتم تنفيذ الحكم بهم، وكان على رأس المعدومين القائد الشجاع حسن سريع.
قطار الموت:
على أثر فشل انتفاضة معسكر الرشيد جرت المداولات بشأن الضباط المعتقلين، وقد أصر عبد الغني الراوي، وصالح مهدي عماش والعديد من الضباط معهم على تنفيذ حكم الإعدام بهم والتخلص منهم مرة وإلى الأبد.إلا أن الرأي استقر في النهاية على قتلهم بطريقة إجرامية أخرى.
بادرت السلطة الفاشية بنقل كافة الضباط المعتقلين إلى سجن [نقرة السلمان] الواقع في البادية الجنوبية حيث تم حشرهم في عربات الحمل الحديدية التي ليس فيها أي تهوية، وفي ذلك الشهر الشديد الحرارة من أشهر الصيف، وكان الفاشيون يرمون بذلك إلى القضاء عليهم بسبب شدة الحرارة، وفقدانهم للسوائل، ولولا شهامة سائق القطار الذي علم بأن ما تحمله عربات النقل هم الضباط المعتقلين من شيوعيين وقاسميين، وقاد القطار بأسرع ما يمكن حتى مدينة السماوة لكان هلك الجميع .
كما كان للموقف الوطني البطولي لأبناء السماوة، رغم أنف جلاوزة السلطة، الذين استقبلوا المعتقلين، وقدموا لهم المياه واللبن والملح للتعويض عن السوائل المفقودة لكان الكثير منهم قد هلك، فقد كان المعتقلون في وضع خطير جداً، وقد تم بعد ذلك نقل المعتقلين بواسطة السيارات إلى سجن نقرة السلمان، في وسط الصحراء بعيداً عن أهلهم وذويهم .
الفاشيون يشنون حملة شعواء على الشيوعيين:
اندفعت قطعان الفاشست من عصابات الحرس القومي بعد إجهاض انتفاضة الرشيد ضد انقلابيي 8 شباط في حملة محمومة ضد العناصر الشيوعية التي ساهمت في الإعداد وتنفيذ الانتفاضة في الثالث من تموز من ذلك العام ، وضد من تبقى من العناصر القيادية والكوادر الحزبية، فقد تمكنت تلك العصابات من الوصول إلى الشهداء [ جمال الحيدري ] و [محمد صالح العبلي ] [عبد الجبار وهبي]ـ أبو سعيد ، وتمت تصفيتهم تحت التعذيب الشنيع.
كنا في تلك الليلة أنا وزوجتي والشهيد إبراهيم وزوجته جالسين أمام التلفاز نستمع إلى الأخبار، وقد اشتد بنا الحزن لفقد الرفاق، وقد تصاعدت بنا المخاطر من كل جانب. كانت ليلة الثامن عشر من تموز عام 1963 أشبه بكابوس رهيب، فقد اشتدت الحملة الفاشية ضد الشيوعيين، ولاسيما أن كلانا بالإضافة إلى زوجة إبراهيم ملاحقين منذ اليوم الأول لوقوع الانقلاب المشؤوم. ورغم صعوبة تلك الظروف والمخاطر المحدقة بنا في كل لحظة، أبلغني الشهيد إبراهيم في تلك الليلة بأنه سوف يخرج في الصباح لمدة ساعتين في مهمة عاجلة، ثم سكت برهة، وعاد ليقول لي أن خروجي كما تعلم فيه الكثير من المخاطر، أنا معروف في بغداد، ولاسيما من بعض العناصر التي انهارت وتعاونت مع البعثيين، أما أنت فلست معروفاً هنا ولم يسبق لك العمل الحزبي في بغداد، ولذلك ومن أجل الصيانة فيما إذا حدث أمر ما لي فإني سأقول أنكم جئتم إلى بغداد كضيوف عندنا لتباركوا لنا زواجنا، أرجو أن تؤكد كلامي هذا وتصر عليه. في تلك اللحظة شعرت لأول مرة أن الخطر سيداهمنا، وشعرت بثقل تلك الليلة، ويبدو أن الشهيد كان لديه نفس الشعور.
التفت إلى إبراهيم قائلاً: أرجوك يا إبراهيم إن لم تكن هناك ضرورة ملحة للخروج أن لا تخرج، فالظرف عصيب، والحملة البعثية على أشدها لملاحقة الشيوعيين الذين لا زالوا طليقين، لكنه أجابني على الفور أنه لا بد من الخروج لأمر ضروري، وأرجو أن لا تقلق أبداً، وكل ما قلته لك هو من باب الاحتياط ليس إلا.
وفي صباح اليوم التالي خرج إبراهيم مبكراً، وقد استبد بنا القلق، وحاولت أن أكتم قلقي عن زوجتي، لكني لم استطع إخفاء ذلك، ومرت الساعتين ولم يعد إبراهيم، وهو المعروف بدقة مواعيده، وبدأنا أنا وزوجتي، حيث كانت زوجته قد خرجت لمراجعة الطبيب، نعد الدقائق والثواني ونحن على أحر من الجمر، ومرت ساعة أخرى ولم يعد إبراهيم، كانت تلك الساعة كأنها سنوات طويلة، وتصاعد شعورنا بالقلق عليه، إن مواعيده مضبوطة، لا بد أن أمراً ما قد حصل له، وبينما نحن على تلك الحال وإذا بطرقات شديدة ومتتالية على الباب، واشتد القلق بنا من يا ترى هو الطارق؟ . تقدمت نحو الباب قائلاً من الطارق؟ وإذا بصوت إبراهيم يخرج من فمه بصعوبة بالغة دلت على أنه في وضع سيئ جداً، وفتحت الباب ويالهول ما رأيت، إبراهيم مكبل بالحديد، وقد غطت جسمه الدماء من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، وهو لا يقوى على الوقوف والكلام، وحوله ما يزيد على عشرة من قطعان الفاشست أفراد الحرس القومي، وقد شهروا رشاشاتهم بوجوهنا مما أرعب أطفالي، وجعلهم يصرخون عندما شاهدوا إبراهيم على تلك الحال.
سارعت زوجتي للتخلص من هويتي المزورة حيث استطاعت تمزيقها ورميها في المرافق، وأخذ الفاشست يفتشون الدار حيث قلبوا أثاثه رأساً على عقب بحثاً عن أية أدلة أو مستمسكات حزبية، وطلبوا مني أن أرافقهم مع إبراهيم، وهكذا أصبحت حياتنا معلقة على شعرة دقيقة. وفي تلك الأثناء صادفت عودة زوجة إبراهيم من المستشفى، وما أن اقتربت من الدار، ووجدت أن الوضع غير طبيعي حوله حتى استدارت عائدة لكي لا يراها أحد، فقد كانت هي الأخرى مطلوبة للقبض عليها.
لكن عصابة الفاشست لمحتها وهي ترجع هاربة من براثنهم فلحقوا بها واستطاعت الإفلات منهم في بادئ الأمر حيث تمكنت من ركوب حافلة الركاب، لكنهم لحقوا بالحافلة، وأمروا السائق بالتوقف، وصعدوا إلى الحافلة والقوا القبض عليها، وقد تعرضت للتعذيب الشنيع على أيديهم القذرة لفترة طويلة في ملعب الإدارة المحلية بالمنصور الذي اتخذه البعثيون سجنا للنساء، فقدت على أثرها الجنين الذي كان سيحمل اسم الشهيد إبراهيم، فقد أجهضت بسبب التعذيب الذي تعرضت له، وأحيلت إلى المجلس العرفي العسكري الذي حكم عليها بالسجن لمدة 7 سنوات ومراقبة الشرطة لمدة سنتين، ولم يطلق سراحها إلا في عهد عبد الرحمن عارف حيث استدعاها رئيس الوزراء آنذاك طاهر يحيى، وبعد نقاش حامٍ معها أوعز طاهر يحيى بإطلاق سراها على أن تخضع لمراقبة الشرطة المحكومة بها وأمدها سنتين.
وقبل أن يأخذنا الحرس القومي معهم، طلبوا من زوجتي إخلاء الدار وتسليم مفاتيحه لهم، حيث أمروا اثنان من المجموعة البقاء والمبيت في الدار ظننا منهم أن الدار وكر حزبي، على أمل إلقاء القبض على من يتردد على الدار، تم جرى نقلنا إلى مقر هيئة التحقيق البعثية التي كان يشرف عليها[ ناظم كزار] و[عمار علوش] و[خالد طبرة] و[عباس الخفاجي] وهو شيوعي مرتد تعاون مع البعثيين، ومارس أشد أنواع التعذيب مع رفاق حزبه، وكان البعثيون قد اتخذوا مقر محكمة الشعب لتكون مقراً للهيئة التحقيقية، ومركزاً للتعذيب والقتل الذي مارسوه ضد العناصر الشيوعية.
وعند وصولنا إلى المقر استقبلنا الجلاد [ناظم كزار] الذي عرفت اسمه من المعتقلين، حيث تم إدخالنا غرفة التعذيب. كان في وسط الغرفة رجل فاقد الوعي ممداً على الأرض، وفي الحال التفت نحوي ناظم كزار قائلاً: هل تعرف هذا؟ مشيراً للشخص الممد على الأرض، وقد أجبته على الفور: ومن أين لي بمعرفته؟ لكنه فأجابني بأن هذا هو [أبو سلام]. وقد أجبته على الفور : ومن هو أبو سلام ؟ وجاء جوابه ضربة شديدة على رأسي وهو يصرخ كالثور الهائج: ألا تعرف من هو أبو سلام ؟ ألم تسمع بحركة الرشيد؟ وقد أجبته نعم لقد سمعت بما جرى في معسكر الرشيد، لكني لا أعرف من هو أبو سلام، ولا اسكن أنا في بغداد، وليس عندي أي علاقة بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد، وكل ما في الأمر أن شقيقة زوجتي قد تزوجت، وقد جئت بصحبة زوجتي مع أطفالنا لمباركة زواجها والعودة من حيث أتينا. . كان علي أن أعمل جهدي على إقناعهم بأني لا صلة لي بالسياسة والأحزاب لكي أنفذ بجلدي من مجزرة هؤلاء المجرمين، وفي حقيقة الأمر فقد كان علي أمراً بإلقاء القبض، ولوا أنهم سألوا عني من أي جهة أمنية لكان مصيري كمصير إبراهيم. في تلك اللحظة التفت ناظم كزار إلى عباس الخفاجي قائلاً له : خذه إلى الموقف فإن قضيته متعلقة بقضية إبراهيم محمد علي وتم نقلي إلى إحدى غرف التوقيف، كان هناك ثلاثة غرف وكل غرفة تضم ما يزيد على الأربعين موقوفاً وهم جميعاً من المشاركين في انتفاضة الرشيد، وأنا الشخص الغريب بينهم، وكل ما يعرفونه عني أنني قد اعتقلت مع إبراهيم محمد علي. كانت الغرفة مكتظة بالموقوفين في ذلك الصيف الحار حيث يتعذر على الإنسان أن يجد له مكاناً كافياً لكي يتمدد أو ينام، وكانوا يخرجونا مرة واحدة يومياً للمرافق على أن لا تتجاوز حصة كل واحد في المرافق عن الخمس دقائق، حيث يهجم الحرس على من يتأخر بأعقاب البنادق، ويمعنون بنا ضرباً.
أما الشهيد إبراهيم فقد أبقوه في غرفة التعذيب الرهيبة وهو في حالة يرثى لها، وبدءوا بممارسة أشد أنواع التعذيب بغية الحصول منه على أي اعتراف، ولاسيما وأن محمد حبيب [ أبو سلام ] كان قد اعترف لهم أنه مسئوله الحزبي، واستمروا في ضربه حتى فقد الوعي. . كان هناك أحد أفراد الحرس، وعلى ما أعتقد كان اسمه صبار، يتردد علينا في الموقف، وأثناء خروجنا إلى المرافق، كان يبدو عليه الطيب، لكنه كان حذراً جداً من الحديث مع الموقوفين، حيث استطاع أن يحدثني بضع كلمات فقط عن إبراهيم قائلا لي: [إنه صلب وشجاع، لم يحصلوا منه على كلمة واحدة، لكن حياته في خطر، لقد كسروا أضلاعه وأطرافه.
وفي اليوم الثالث استطاع الهمس في أذني:[إبراهيم قضى بطلاً وقطعت أوصاله، والقيت في نهر دجلة]. لم استطع تحمل الصدمة، وبدأت الأرض تدور من حولي، وانهالت الدموع من عيناي وأنا لا أستطيع أن افعل شيئاً، يا لهول الصدمة، ويا لعظم الخسارة، أي نوع من الوحوش هذه الزمرة التي لا تعرف معنى لحقوق الإنسان!!. لقد انقطع الخيط الذي كان القتلة يريدون من خلاله التوصل إلى حقيقة علاقتي بإبراهيم فكان صموده وبطولته الخارقة هي العامل الحاسم في إنقاذي من أيدي الجلادين البعثيين الفاشست، وبقائي على قيد الحياة. أما الشهيد إبراهيم فستبقى ذكراه خالدة في ذاكرتي ما حييت كإنسان نبيل ، ومناضل شجاع صمد تحت أيدي جلاديه حتى الموت دون أن ينطق بكلمة واحدة عن أسرار الحزب، وبذلك أنقذ الكثير من رفاق الحزب من الوقوع في أيدي الجلادين.
ملاحظة: للمزيد من المعلومات يمكن مراجعة كتابي [سنوات الجحيم]على الصفحة الرئيسية :
التسميات:
بحوث تاريخية
بحوث تاريخية
0 التعليقات: