هكذا نجح انقلاب 8 شباط الفاشي في العراق
3:35 ص | مرسلة بواسطة
hamid
حامد الحمداني
8/2/2009
أولاً:الظروف التي ساعدت ،ومهدت للانقلاب:
في ظل الظروف التي سادت العراق منذُ عام 1959 ، حيث بدأت الانتكاسة في العلاقات بين الأحزاب السياسية الوطنية من جهة، وبين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم ، من جهة أخرى، تلك الانتكاسة التي تتحمل كافة الأحزاب السياسية، و عبد الكريم قاسم نفسه مسؤوليتها، حيث غلّب كل حزب مصالحه الذاتية على المصلحة العليا للشعب والوطن، وحيث عمل عبد الكريم قاسم جاهداً للاستئثار بالسلطة، وسعيه الحثيث إلى تحجيم الحزب الشيوعي، بعد المد الواسع الذي شهده الحزب خلال العام الأول للثورة، ولجوئه إلى سياسة توازن القوى بين حماة الثورة، والقوى التي تآمرت عليها، واتخاذه سياسة التسامح والعفو عن المتآمرين الذين تآمروا على الثورة { سياسة عفا الله عما سلف} التي اقتصرت على تلك العناصر دون سواها، حيث أطلق سراحهم من السجن، وأعاد عدد كبير من الضباط الذين سبق وأن أحيلوا على التقاعد بعد انقلاب العقيد الشواف الفاشل في الموصل، إلى مراكز حساسة في الجيش.
وفي الوقت نفسه، أقدم على اعتقال وسجن خيرة المناضلين المدافعين الأشداء عن الثورة وقيادتها ومسيرتها، وأحالهم إلى المحاكم العرفية العسكرية الأولى والثانية التي كان يرأسها كل من [ العقيد شمس الدين عبد الله ] والعقيد [ شاكر مدحت السعود ] المعروفين بعدائهما للشيوعيين وسائر القوى الديمقراطية، حيث أصدرا بحقهم أحكاماً قاسية بالسجن لمدد طويلة .
كما أقدم على تسريح عدد كبير من الضباط، والقادة العسكريين، ومجاميع كبيرة من الضباط الاحتياط ، وكذلك ضباط الصف المشهود لهم بالوطنية الصادقة، والدفاع عن الجمهورية، حيث كان لهم دور كبير في القضاء على تمرد الشواف، وإجهاض كل المحاولات التآمرية الأخرى ضد الثورة وقيادتها.
كما لجأ عبد الكريم قاسم إلى تجريد المنظمات الجماهيرية التي لعبت دوراً بارزاً في حماية الثورة ومكتسباتها من قياداتها المخلصة والأمينة على مصالح الشعب والوطن، والتي جادت بدمائها من أجل الثورة، ومن أجل مستقبل مشرق للعراق وشعبه، وتسليمها للقوى المعادية للثورة، بهدف إضعاف الحزب الشيوعي، وهذه أهم الإجراءات الخاطئة التي اتخذها عبد الكريم قاسم في هذا المجال والتي كان لها الأثرالحاسم في وقوع ، ونجاح انقلاب الثامن من شباط الفاشي عام 1963:
1ـ سحب السلاح من المقاومة الشعبية، وإنهاء وجودها فيما بعد، واعتقال معظم قادتها المخلصين للثورة وقيادتها.
لقد كان موقف قاسم من المقاومة الشعبية خاطئاً، رغم أن الحزب الشيوعي يتحمل مسؤولية الكثير من الأخطاء التي أعطت المبرر لقاسم للإقدام على حلها، فقد سيطر الحزب على المقاومة الشعبية، حتى أنها كانت تبدو وكأنها ميليشيا خاصة بالحزب.
وكانت المقاومة الشعبية، نتيجة الحرص الزائد على الثورة، قد أوقعت نفسها بأخطاء عديدة ما كان لها أن تحدث، واستغلتها القوى المعادية للثورة لتشويه سمعة المقاومة، وتحريض عبد الكريم قاسم على سحب السلاح منها، وتجميد صلاحياتها، ومن ثم إلغائها .
لقد كان بالإمكان معالجة تلك الأخطاء، لا في إلغاء المقاومة الشعبية، درع الثورة الحصين، بل في إصلاحها، وإعادة تنظيمها، وتمكينها من أداء مهامها في حماية الثورة فلو كانت المقاومة الشعبية موجودة يوم الثامن من شباط، لما استطاعت تلك الزمر المعزولة عن الشعب من تنفيذ مؤامرتها الدنيئة، ونجاحها في اغتيال الثورة، واغتياله هو بالذات وإغراق العراق بالدماء.
لقد وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما ظن أن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي وليس من جانب القوى الرجعية، وعملاء الإمبريالية.
إن الحزب الشيوعي لم يفكر يوماً ما في الغدر بعبد الكريم قاسم، أو المساس بقيادته، بل بقي حتى اللحظات الأخيرة من حكمه يعتبره قائداً وطنياً معادياً للاستعمار، وذاد عن سلطته، وعن الجمهورية يوم الثامن من شباط 963 وهو اعزل من السلاح، مستخدماً كل ما يملك، وحتى الحجارة لمقاومة الانقلاب، وحاول بكل جهده الحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين، وكانت جماهيره العزلاء بالألوف تحيط بوزارة الدفاع وهي تهتف : {باسم العامل والفلاح، يا كريم أعطينا سلاح}، ولكن دون جدوى، حتى أحاط الانقلابيون وزارة الدفاع بدباباتهم، وجرى قصفها بالطائرات والمدافع حتى انهارت مقاومة عبد الكريم قاسم، واستسلامه فيما بعد.
إن استسلام عبد الكريم قاسم للانقلابيين كان خطأ آخر وقع فيه ، فقد أعتقد أن هناك أملاً في أن يعفُ عنه الانقلابيون، ويسفرونه إلى الخارج أو ربما حُوكم محاكمة قانونية عادلة أو سجن لفترة من الزمن، ولم يدر في خلده أن حقدهم عليه وعلى ثورة 14 تموز المجيدة جعلتهم يصممون على تصفيته، وتصفية كافة أعوانه، وكل الوطنيين المخلصين لشعبهم ووطنهم، ولثورة تموز المجيدة.
كنت أتمنى أن يستشهد عبد الكريم قاسم وهو يدافع عن الثورة وعن نفسه، كما فعل من بعده الشهيد [سلفادور اليندي]، رئيس جمهورية شيلي عام 1972، حينما أقدمت الإمبريالية الأمريكية على تدبير الانقلاب الفاشي فيها، ولا يقع بأيدي الانقلابيين الذين تطاولوا عليه بأبشع وأخس العبارات قبل تنفيذ الإعدام به وبرفاقه فاضل عباس المهداوي وطه الشيخ أحمد وكنعان حداد.
2 ـ بغية تحجيم الحزب الشيوعي وإضعافه، أقدم عبد الكريم قاسم على إحالة عدد كبير من الضباط المخلصين للثورة، ولقيادته، فقد أصدر الزعيم عبد الكريم قاسم مرسوماً جمهورياً في 29 حزيران 1959 يقضي بإحالة قائد الفرقة الثانية في كركوك الزعيم الركن [داوود الجنابي ] وخمسة من مساعديه على التقاعد في 29 حزيران 1959.
كما أقدم على إبعاد الزعيم الركن [ هاشم عبد الجبار ] آمر اللواء العشرين، المعروف بوطنيته الصادقة، والذي أفشل خطط الانقلابيين يوم جرت محاولة اغتياله في شارع الرشيد، وأحكم سيطرته على بغداد، وأحلّ محله الزعيم [صديق مصطفى ]، المعروف بعدائه للقوى التقدمية، ولثورة تموز، والذي لعب دوراً بارزاً في انقلاب 8 شباط 1963 عندما سيطرت قواته على مدينة السليمانية يوم الانقلاب، وقام بإعدام المئات من الوطنيين الأكراد، الذين جرى دفنهم بقبور جماعية.
كما أقدم عبد الكريم قاسم على اعتقال المقدم الركن [ فاضل البياتي ] آمر كتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب، وزملائه الضباط الوطنيين الآخرين، كان من بينهم الرئيس [حسون الزهيري ] والرئيس [كاظم عبد الكريم] ، والمقدم [خزعل السعدي ]،الذين كان لهم الدور الرئيسي في كشف مؤامرة رشيد عالي الكيلاني، وأودعهم في إمرة الإدارة بوزارة الدفاع لكي يقعوا صيداً ثميناً لدى انقلابيي 8شباط 1963 حيث جرى تصفيتهم تحت التعذيب الوحشي .
وأقدم قاسم على تسليم تلك الكتيبة إلى المتآمر الرائد [خالد مكي الهاشمي] الذي كان له ولكتيبته الدور الأساس في الانقلاب، حيث قاد دبابات الكتيبة نحو وزارة الدفاع مقر عبد الكريم قاسم .
3 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في الحبانية ، وتعيين العقيد الطيار [عارف عبد الرزاق ] الذي أعاده للجيش، بعد أن كان قد أحاله على التقاعد، وكان لتلك القاعدة، ولآمرها دور هام جداً في نجاح الانقلاب، حيث قامت منه الطائرات التي قصفت وزارة الدفاع .
4 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في كركوك ، وتعيين المقدم الطيار حردان عبد الغفار التكريتي آمراً لها، وكان له الدور الكبير في الانقلاب، حيث قام بقصف وزارة الدفاع بطائرته.
5 ـ تنحية العقيد [ عبد الباقي كاظم ] مدير شرطة بغداد، وتعين العقيد طه الشيخلي المعروف بعدائه للثورة ولسائر القوى التقدمية وثبوت مشاركته في الانقلاب.
6 ـ إعادة 19 من الضباط القوميين والبعثيين الذين سبق وأن أحالهم على التقاعد، وقد جرى ذلك في أوائل آب 1959، وكان من بينهم العقيد [عبد الغني الراوي ] الذي لعب دورا رئيسياً في الانقلاب، وكان أحد قتلة الزعيم عبد الكريم قاسم في دار الإذاعة.
7 ـ أحال العقيد [حسن عبود ] آمر اللواء الخامس، وآمر موقع الموصل على التقاعد في 21 شباط 1961، وكان العقيد حسن عبود قد قاد القوات التي سحقت انقلاب الشواف في الموصل، وذاد عن الثورة، وقيادة عبد الكريم قاسم نفسه.
8 ـ إعفاء قائد الفرقة الأولى في الديوانية ، وتعين الزعيم الركن [سيد حميد سيد حسين ] الرجعي المعروف بعدائه الشديد للقوى التقدمية، والذي لعب دوراً كبيراً في محاربة الشيوعية في سائر المنطقة الجنوبية من العراق، حيث كانت تمتد سلطته العسكرية على سائر ألوية جنوب العراق، كما أحال عدد كبير من ضباط الفرقة الوطنيين على التقاعد .
9 ـ إخراج كافة ضباط الاحتياط الدورة 13،المتخرجين عام 959 ،والبالغ عددهم 1700 ضابط من الخدمة في الجيش بالنظر للنفوذ الكبير للشيوعيين فيها.
10 ـ إعفاء المقدم الركن [ سليم الفخري ] المدير العام للإذاعة والتلفزيون، وتسليمها لعناصر لا تدين بالولاء للثورة وقيادتها، وقد وصفت صحيفة [ صوت الأحرار] في 12 حزيران 962 دار الإذاعة بأنها قد أصبحت وكراً للمتآمرين ولانتهازيين والرجعيين، بعد أن أبعد عبد الكريم قاسم جميع العناصر الوطنية منها.
كما كانت القوة العسكرية المكلفة بحماية دار الإذاعة لا تدين بالولاء للثورة، وهذا مما سهل للانقلابيين السيطرة على دار الإذاعة بكل يسرٍ وسهولة صباح يوم الانقلاب واتخذوها مقراً لقيادة الانقلاب.
كان لذلك الحال تأثيراً كبيراً على معنويات الجيش والشعب، عندما سارع الانقلابيون إلى الإعلان عن مقتل عبد الكريم قاسم لإثباط عزيمة الجيش للتحرك لإخماد الانقلاب، ومعلوم أن عبد الكريم قاسم ظل يقاوم الانقلابيين حتى ظهر اليوم التالي 9 شباط، ولو لم يكن الانقلابيون قد سيطروا على دار الإذاعة واستطاع عبد الكريم قاسم إذاعة بيانه الأخير غير المذاع، لما نجح الانقلاب.
11 ـ إعفاء كافة الوزراء ذوي الاتجاه التقدمي من الوزارة، وإعفاء عدد كبير من كبار المسؤولين المدنيين من وظائفهم، وتعين آخرين لا يدينون بالولاء للثورة وقيادتها، فقد كان جلَّ هم عبد الكريم قاسم إبعاد كل عنصر له ميل أو علاقة بالحزب الشيوعي من قريب أو من بعيد.
12 ـ تصفية كل المنظمات الشعبية ذات الصبغة الديمقراطية، كمنظمة أنصار السلام، واتحاد الشبيبة الديمقراطية، ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة، ولجان الدفاع عن الجمهورية، ومحاربة القيادات الوطنية المخلصة في الاتحاد العام لنقابات العمال، والاتحاد العام للجمعيات الفلاحية، ونقابات المعلمين، والمهندسين، والأطباء، والمحامين وإبعادهم عن قيادة تلك المنظمات، وتسليمها إلى أعداء الشعب.
13ـ إصدار العفو عن عبد السلام عارف، وعن المجموعة التي نفذت محاولة اغتياله في شارع الرشيد، وإعفاء رشيد عالي الكيلاني وزمرته، وجميع رجالات العهد الملكي من محكومياتهم في 11 حزيران 962، في حين أحتفظ بكافة الشيوعيين، والديمقراطيين رهائن في السجون، وتولى الانقلابيون فيما بعد جريمة قتل أعداد كبيرة منهم.
لقد شجعت سياسة العفو والتسامح مع أعداء الثورة على إيغال أولئك المتآمرين، واستمرارهم في التآمر، على عكس ما تصور عبد الكريم قاسم من أن إصدار العفو عنهم سوف يردهم عن التآمر.
14ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم مسالة الصراع مع القوى المضادة للثورة الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، الذي أحدث ثورة اجتماعية سلبت السلطة من الإقطاعيين دعائم الإمبريالية.
ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون، وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين، واستغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب.
15 ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم ما سوف يسببه صراعه مع شركات النفط من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 961 ، والذي أنتزع بموجبه 99,9% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة الشركات، والعمل على استغلالها وطنياً.
لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة والحذر من أحابيل ومؤامرات شركات النفط حرصاً على مصالحها، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء.
16ـ قيام التمرد الكردي بقيادة الإقطاعيين [ رشيد لولان ] و[عباس مامند]، وانجرار الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة الملا مصطفى البارزاني إلى تلك الحركة، ولجوء السلطة إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع الأكراد، مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط، ومع التمرد الرجعي لرشيد لولان وعباس مامند المدعم من قبل الإمبريالية الأمريكية وحليفها [شاه إيران].
ففي الفترة بين 20 ـ 23 تموز أجتمع السفير الأمريكي في طهران [ هولمز] بالشيوخ المتمردين، وتم إرسال [ علي حسين أغا المنكوري ] على رأس عصابة مسلحة بالأسلحة الأمريكية، وبإشراف خبراء أمريكان، ليفرض سيطرته على ناحية [تاودست ] كما أعترف الأسرى من المتمردين بأنهم يحصلون على العون والأسلحة من الولايات المتحدة، وبريطانيا عن طريق إيران .
وفي بداية عام 963 ، عندما كانت الحرب تدور في كردستان، كنت آنذاك في مدينة السليمانية إحدى أكبر مدن كردستان ، أتابع مجريات تلك الحرب، واتحسر على ما آلت إليه الأمور في بلادي، حيث يقتل العراقيون بعضهم بعضاً .
ومن المؤسف أيضاً أن ينجر الحزب الشيوعي، بسبب من الضغوط التي مارسها قاسم ضده، إلى الحركة الكردية، بعد أن وقف منذُ البداية مطالباً بالسلم في كردستان، والديمقراطية للعراق، تاركاً النظام منعزلاً وجهاً لوجه أمام مؤامرات الإمبريالية وعملائها. كما يتحمل قاسم جانباً كبيراً من المسؤولية في إيصال الأمور مع القيادة الكردية إلى مرحلة الصراع المسلح .
17 ـ اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق الذي لم يجر عليه أي تغيير سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد، ومعلوم أن ذلك الجهاز الذي أنشأته ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك لم يكن يدين بالولاء للثورة، ولا لزعيمها عبد الكريم قاسم، وكان لها دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية، والحركات التآمرية عن السلطة، وحماية المتآمرين ومما يؤكد هذا الحديث الذي جرى مع مدير الأمن العام [ مجيد عبد الجليل ] الذي جيء به إلى دار الإذاعة، التي اتخذها الانقلابيون مقراً لهم، وقام علي صالح السعدي أمين سر حزب البعث بالبصق في وجهه فما كان من مدير الأمن العام إلا أن قال له : { لماذا تبصق في وجهي ؟ فلولاي لما نجح الانقلاب}، وهذا خير دليل على عدم أمانة ذلك الجهاز الذي أعتمد عليه عبد الكريم قاسم
ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن، والذي أنيط به حماية الثورة من المتآمرين، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة، وكان على رأسهم رئيس الجهاز[ محسن الرفيعي ] ومن قبله [ رفعت الحاج سري] الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للشواف، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه.
كما أن موقف رئيس أركان الجيش والحاكم العسكري العام [ أحمد صالح العبدي ] المتخاذل دل على مساومة الانقلابيين، والسكوت عن تحركاتهم، فلم ينل منهم أذى، وأطلق سراحه بعد أيام قلائل، فيما جرى إعدام كل المخلصين لثورة تموز وقيادتها.
18 ـ قيام الطلاب البعثيين والقوميين بإضراب عام ساندهم فيه أعضاء ومؤيدي الحزب الديمقراطي الكردستاني، مستخدمين كل الوسائل والسبل، بما فيها العنف، لمنع الطلاب من مواصلة الدراسة، ولم يكن موقف السلطة من الإضراب يتناسب وخطورته، فقد اتخذت السلطة جانب اللين مع المضربين ولم تحاول كبح جماحهم، وكسر الإضراب ، وكان ذلك الإضراب بداية العد التنازلي لتنفيذ الانقلاب .
ولابد أن أشير هنا إلى الدور الذي لعبته سفارة العربية المتحدة في دعم الإضراب ، وطبع المنشورات، وقد اضطرت الحكومة العراقية إلى طرد أحد الملحقين في السفارة في 24كانون الثاني 1963.
ثانيا: مَنْ أعدّ وساهم في الانقلاب ؟
لاشك في أن الدور الأول في الإعداد للانقلاب كان لشركات النفط، بعد أن أقدم عبد الكريم قاسم على إصدار قانون رقم 80 لسنة 961 ، بعد صراع مرير مع تلك الشركات والتهديدات التي وجهتها إلى حكومة الثورة ، ذلك لأن النفط بالنسبة للدول الإمبريالية أمر لا يفوقه أهمية، أي أمر آخر، ولذلك نجد أن جَلّ اهتمام هذه الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، هو الاستحواذ على منابع النفط، وإحكام سيطرتهم عليها.
ولما جاءت ثورة الرابع عشر من تموز، واتخذت لها خطاً مستقلاً بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية هالهم الأمر، وصمموا منذُ اللحظات الأولى على إجهاض الثورة، والقضاء عليها، وبالفعل نزلت القوات البريطانية في الأردن، والأمريكية في لبنان، وحشدت تركيا قواتها العسكرية على الحدود العراقية من أجل العدوان على العراق.
إلا أن موقف الاتحاد السوفيتي المساند للحكومة الثورية الجديدة، وتحذيره للإمبرياليين من مغبة العدوان على العراق، وحشد قواته على الحدود التركية، وتحذيرها من أي محاولة للتدخل والعدوان، كل تلك الإجراءات أسقطت في يد الإمبريالية، وجعلتهم يفكرون ألف مرة قبل الإقدام على أي خطوة متهورة .
وهكذا جاءت الريح كما لا تشتهي السفن، كما يقول المثل، غير أن الإمبرياليين لم يتركوا مسألة إسقاط الثورة أبداً، بل بادروا إلى تغير خططهم بما يتلاءم والظروف الجديدة، محاولين إنهاء الثورة من الداخل مجندين حزب البعث، وطائفة من القوى القومية لتنفيذ أهدافهم الشريرة، فلقد ذكر [ علي صالح السعدي ] أمين سر حزب البعث في مؤتمر صحفي عقده بعد وقوع انقلاب عبد السلام عارف ضد حكم البعث قائلاً [لقد جئنا إلى الحكم بقطار أمريكي].
كما ذكر الملك حسين، ملك الأردن في مقابلة أجراها معه [ محمد حسنين هيكل ] رئيس تحرير صحيفة الأهرام في فندق [ كريون] في باريس حيث قال الملك:
{تقول لي أن الاستخبارات الأمريكية كانت وراء الأحداث التي جرت في الأردن عام 957 ، أسمح لي أن أقول لك أن ما جرى في العراق في 8 شباط 963 قد حضي بدعم الاستخبارات الأمريكية، ولا يعرف بعض الذين يحكمون بغداد اليوم هذا الأمر، ولكنني اعرف الحقيقة .
لقد عقدت عدة اجتماعات بين حزب البعث والاستخبارات الأمريكية، وعقد أهم تلك الاجتماعات في الكويت، وأزيدك علماً أن محطة إذاعة سرية كانت قد نصبتها الاستخبارات الأمريكية في الكويت، وكانت تبث إلى العراق، وتزود يوم 8 شباط ، رجال الانقلاب بأسماء الشيوعيين وعناوينهم للتمكن من اعتقالهم وإعدامهم }.
كما أن أحد أعضاء قيادة حزب البعث عام 963 ، طلب عدم ذكر أسمه قد ذكر لمؤلف كتاب العراق الكاتب [ حنا بطاطو ] أن السفارة اليوغسلافية في بيروت حذرت بعض القادة البعثيين من أن بعض البعثيين العراقيين يقيمون اتصالات خفية مع ممثلين للسلطة الأمريكية. وهذا ما فيه الكفاية عن الدور الذي لعبته الإمبريالية في الإعداد للانقلاب.
لقد حكم الانقلابيون البعثيون مدة تسعة أشهر كان إنجازهم الوحيد خلالها هو شن الحرب الهوجاء على الشيوعيين والديمقراطيين، وكانت تلك الأشهر بحق أشهر الدماء والمشانق، والسجون والتعذيب، وكل الأعمال الدنيئة، التي يندى لها جبين الإنسانية، حتى وصل الأمر بعبد السلام عارف، شريكهم في الانقلاب، ورئيس جمهوريتهم، بعد انقلاب شباط، أن أصدر كتاباً ضخماً عن جرائمهم وأفعالهم المشينة سماه [المنحرفون] .
8/2/2009
8/2/2009
أولاً:الظروف التي ساعدت ،ومهدت للانقلاب:
في ظل الظروف التي سادت العراق منذُ عام 1959 ، حيث بدأت الانتكاسة في العلاقات بين الأحزاب السياسية الوطنية من جهة، وبين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم ، من جهة أخرى، تلك الانتكاسة التي تتحمل كافة الأحزاب السياسية، و عبد الكريم قاسم نفسه مسؤوليتها، حيث غلّب كل حزب مصالحه الذاتية على المصلحة العليا للشعب والوطن، وحيث عمل عبد الكريم قاسم جاهداً للاستئثار بالسلطة، وسعيه الحثيث إلى تحجيم الحزب الشيوعي، بعد المد الواسع الذي شهده الحزب خلال العام الأول للثورة، ولجوئه إلى سياسة توازن القوى بين حماة الثورة، والقوى التي تآمرت عليها، واتخاذه سياسة التسامح والعفو عن المتآمرين الذين تآمروا على الثورة { سياسة عفا الله عما سلف} التي اقتصرت على تلك العناصر دون سواها، حيث أطلق سراحهم من السجن، وأعاد عدد كبير من الضباط الذين سبق وأن أحيلوا على التقاعد بعد انقلاب العقيد الشواف الفاشل في الموصل، إلى مراكز حساسة في الجيش.
وفي الوقت نفسه، أقدم على اعتقال وسجن خيرة المناضلين المدافعين الأشداء عن الثورة وقيادتها ومسيرتها، وأحالهم إلى المحاكم العرفية العسكرية الأولى والثانية التي كان يرأسها كل من [ العقيد شمس الدين عبد الله ] والعقيد [ شاكر مدحت السعود ] المعروفين بعدائهما للشيوعيين وسائر القوى الديمقراطية، حيث أصدرا بحقهم أحكاماً قاسية بالسجن لمدد طويلة .
كما أقدم على تسريح عدد كبير من الضباط، والقادة العسكريين، ومجاميع كبيرة من الضباط الاحتياط ، وكذلك ضباط الصف المشهود لهم بالوطنية الصادقة، والدفاع عن الجمهورية، حيث كان لهم دور كبير في القضاء على تمرد الشواف، وإجهاض كل المحاولات التآمرية الأخرى ضد الثورة وقيادتها.
كما لجأ عبد الكريم قاسم إلى تجريد المنظمات الجماهيرية التي لعبت دوراً بارزاً في حماية الثورة ومكتسباتها من قياداتها المخلصة والأمينة على مصالح الشعب والوطن، والتي جادت بدمائها من أجل الثورة، ومن أجل مستقبل مشرق للعراق وشعبه، وتسليمها للقوى المعادية للثورة، بهدف إضعاف الحزب الشيوعي، وهذه أهم الإجراءات الخاطئة التي اتخذها عبد الكريم قاسم في هذا المجال والتي كان لها الأثرالحاسم في وقوع ، ونجاح انقلاب الثامن من شباط الفاشي عام 1963:
1ـ سحب السلاح من المقاومة الشعبية، وإنهاء وجودها فيما بعد، واعتقال معظم قادتها المخلصين للثورة وقيادتها.
لقد كان موقف قاسم من المقاومة الشعبية خاطئاً، رغم أن الحزب الشيوعي يتحمل مسؤولية الكثير من الأخطاء التي أعطت المبرر لقاسم للإقدام على حلها، فقد سيطر الحزب على المقاومة الشعبية، حتى أنها كانت تبدو وكأنها ميليشيا خاصة بالحزب.
وكانت المقاومة الشعبية، نتيجة الحرص الزائد على الثورة، قد أوقعت نفسها بأخطاء عديدة ما كان لها أن تحدث، واستغلتها القوى المعادية للثورة لتشويه سمعة المقاومة، وتحريض عبد الكريم قاسم على سحب السلاح منها، وتجميد صلاحياتها، ومن ثم إلغائها .
لقد كان بالإمكان معالجة تلك الأخطاء، لا في إلغاء المقاومة الشعبية، درع الثورة الحصين، بل في إصلاحها، وإعادة تنظيمها، وتمكينها من أداء مهامها في حماية الثورة فلو كانت المقاومة الشعبية موجودة يوم الثامن من شباط، لما استطاعت تلك الزمر المعزولة عن الشعب من تنفيذ مؤامرتها الدنيئة، ونجاحها في اغتيال الثورة، واغتياله هو بالذات وإغراق العراق بالدماء.
لقد وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما ظن أن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي وليس من جانب القوى الرجعية، وعملاء الإمبريالية.
إن الحزب الشيوعي لم يفكر يوماً ما في الغدر بعبد الكريم قاسم، أو المساس بقيادته، بل بقي حتى اللحظات الأخيرة من حكمه يعتبره قائداً وطنياً معادياً للاستعمار، وذاد عن سلطته، وعن الجمهورية يوم الثامن من شباط 963 وهو اعزل من السلاح، مستخدماً كل ما يملك، وحتى الحجارة لمقاومة الانقلاب، وحاول بكل جهده الحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين، وكانت جماهيره العزلاء بالألوف تحيط بوزارة الدفاع وهي تهتف : {باسم العامل والفلاح، يا كريم أعطينا سلاح}، ولكن دون جدوى، حتى أحاط الانقلابيون وزارة الدفاع بدباباتهم، وجرى قصفها بالطائرات والمدافع حتى انهارت مقاومة عبد الكريم قاسم، واستسلامه فيما بعد.
إن استسلام عبد الكريم قاسم للانقلابيين كان خطأ آخر وقع فيه ، فقد أعتقد أن هناك أملاً في أن يعفُ عنه الانقلابيون، ويسفرونه إلى الخارج أو ربما حُوكم محاكمة قانونية عادلة أو سجن لفترة من الزمن، ولم يدر في خلده أن حقدهم عليه وعلى ثورة 14 تموز المجيدة جعلتهم يصممون على تصفيته، وتصفية كافة أعوانه، وكل الوطنيين المخلصين لشعبهم ووطنهم، ولثورة تموز المجيدة.
كنت أتمنى أن يستشهد عبد الكريم قاسم وهو يدافع عن الثورة وعن نفسه، كما فعل من بعده الشهيد [سلفادور اليندي]، رئيس جمهورية شيلي عام 1972، حينما أقدمت الإمبريالية الأمريكية على تدبير الانقلاب الفاشي فيها، ولا يقع بأيدي الانقلابيين الذين تطاولوا عليه بأبشع وأخس العبارات قبل تنفيذ الإعدام به وبرفاقه فاضل عباس المهداوي وطه الشيخ أحمد وكنعان حداد.
2 ـ بغية تحجيم الحزب الشيوعي وإضعافه، أقدم عبد الكريم قاسم على إحالة عدد كبير من الضباط المخلصين للثورة، ولقيادته، فقد أصدر الزعيم عبد الكريم قاسم مرسوماً جمهورياً في 29 حزيران 1959 يقضي بإحالة قائد الفرقة الثانية في كركوك الزعيم الركن [داوود الجنابي ] وخمسة من مساعديه على التقاعد في 29 حزيران 1959.
كما أقدم على إبعاد الزعيم الركن [ هاشم عبد الجبار ] آمر اللواء العشرين، المعروف بوطنيته الصادقة، والذي أفشل خطط الانقلابيين يوم جرت محاولة اغتياله في شارع الرشيد، وأحكم سيطرته على بغداد، وأحلّ محله الزعيم [صديق مصطفى ]، المعروف بعدائه للقوى التقدمية، ولثورة تموز، والذي لعب دوراً بارزاً في انقلاب 8 شباط 1963 عندما سيطرت قواته على مدينة السليمانية يوم الانقلاب، وقام بإعدام المئات من الوطنيين الأكراد، الذين جرى دفنهم بقبور جماعية.
كما أقدم عبد الكريم قاسم على اعتقال المقدم الركن [ فاضل البياتي ] آمر كتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب، وزملائه الضباط الوطنيين الآخرين، كان من بينهم الرئيس [حسون الزهيري ] والرئيس [كاظم عبد الكريم] ، والمقدم [خزعل السعدي ]،الذين كان لهم الدور الرئيسي في كشف مؤامرة رشيد عالي الكيلاني، وأودعهم في إمرة الإدارة بوزارة الدفاع لكي يقعوا صيداً ثميناً لدى انقلابيي 8شباط 1963 حيث جرى تصفيتهم تحت التعذيب الوحشي .
وأقدم قاسم على تسليم تلك الكتيبة إلى المتآمر الرائد [خالد مكي الهاشمي] الذي كان له ولكتيبته الدور الأساس في الانقلاب، حيث قاد دبابات الكتيبة نحو وزارة الدفاع مقر عبد الكريم قاسم .
3 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في الحبانية ، وتعيين العقيد الطيار [عارف عبد الرزاق ] الذي أعاده للجيش، بعد أن كان قد أحاله على التقاعد، وكان لتلك القاعدة، ولآمرها دور هام جداً في نجاح الانقلاب، حيث قامت منه الطائرات التي قصفت وزارة الدفاع .
4 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في كركوك ، وتعيين المقدم الطيار حردان عبد الغفار التكريتي آمراً لها، وكان له الدور الكبير في الانقلاب، حيث قام بقصف وزارة الدفاع بطائرته.
5 ـ تنحية العقيد [ عبد الباقي كاظم ] مدير شرطة بغداد، وتعين العقيد طه الشيخلي المعروف بعدائه للثورة ولسائر القوى التقدمية وثبوت مشاركته في الانقلاب.
6 ـ إعادة 19 من الضباط القوميين والبعثيين الذين سبق وأن أحالهم على التقاعد، وقد جرى ذلك في أوائل آب 1959، وكان من بينهم العقيد [عبد الغني الراوي ] الذي لعب دورا رئيسياً في الانقلاب، وكان أحد قتلة الزعيم عبد الكريم قاسم في دار الإذاعة.
7 ـ أحال العقيد [حسن عبود ] آمر اللواء الخامس، وآمر موقع الموصل على التقاعد في 21 شباط 1961، وكان العقيد حسن عبود قد قاد القوات التي سحقت انقلاب الشواف في الموصل، وذاد عن الثورة، وقيادة عبد الكريم قاسم نفسه.
8 ـ إعفاء قائد الفرقة الأولى في الديوانية ، وتعين الزعيم الركن [سيد حميد سيد حسين ] الرجعي المعروف بعدائه الشديد للقوى التقدمية، والذي لعب دوراً كبيراً في محاربة الشيوعية في سائر المنطقة الجنوبية من العراق، حيث كانت تمتد سلطته العسكرية على سائر ألوية جنوب العراق، كما أحال عدد كبير من ضباط الفرقة الوطنيين على التقاعد .
9 ـ إخراج كافة ضباط الاحتياط الدورة 13،المتخرجين عام 959 ،والبالغ عددهم 1700 ضابط من الخدمة في الجيش بالنظر للنفوذ الكبير للشيوعيين فيها.
10 ـ إعفاء المقدم الركن [ سليم الفخري ] المدير العام للإذاعة والتلفزيون، وتسليمها لعناصر لا تدين بالولاء للثورة وقيادتها، وقد وصفت صحيفة [ صوت الأحرار] في 12 حزيران 962 دار الإذاعة بأنها قد أصبحت وكراً للمتآمرين ولانتهازيين والرجعيين، بعد أن أبعد عبد الكريم قاسم جميع العناصر الوطنية منها.
كما كانت القوة العسكرية المكلفة بحماية دار الإذاعة لا تدين بالولاء للثورة، وهذا مما سهل للانقلابيين السيطرة على دار الإذاعة بكل يسرٍ وسهولة صباح يوم الانقلاب واتخذوها مقراً لقيادة الانقلاب.
كان لذلك الحال تأثيراً كبيراً على معنويات الجيش والشعب، عندما سارع الانقلابيون إلى الإعلان عن مقتل عبد الكريم قاسم لإثباط عزيمة الجيش للتحرك لإخماد الانقلاب، ومعلوم أن عبد الكريم قاسم ظل يقاوم الانقلابيين حتى ظهر اليوم التالي 9 شباط، ولو لم يكن الانقلابيون قد سيطروا على دار الإذاعة واستطاع عبد الكريم قاسم إذاعة بيانه الأخير غير المذاع، لما نجح الانقلاب.
11 ـ إعفاء كافة الوزراء ذوي الاتجاه التقدمي من الوزارة، وإعفاء عدد كبير من كبار المسؤولين المدنيين من وظائفهم، وتعين آخرين لا يدينون بالولاء للثورة وقيادتها، فقد كان جلَّ هم عبد الكريم قاسم إبعاد كل عنصر له ميل أو علاقة بالحزب الشيوعي من قريب أو من بعيد.
12 ـ تصفية كل المنظمات الشعبية ذات الصبغة الديمقراطية، كمنظمة أنصار السلام، واتحاد الشبيبة الديمقراطية، ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة، ولجان الدفاع عن الجمهورية، ومحاربة القيادات الوطنية المخلصة في الاتحاد العام لنقابات العمال، والاتحاد العام للجمعيات الفلاحية، ونقابات المعلمين، والمهندسين، والأطباء، والمحامين وإبعادهم عن قيادة تلك المنظمات، وتسليمها إلى أعداء الشعب.
13ـ إصدار العفو عن عبد السلام عارف، وعن المجموعة التي نفذت محاولة اغتياله في شارع الرشيد، وإعفاء رشيد عالي الكيلاني وزمرته، وجميع رجالات العهد الملكي من محكومياتهم في 11 حزيران 962، في حين أحتفظ بكافة الشيوعيين، والديمقراطيين رهائن في السجون، وتولى الانقلابيون فيما بعد جريمة قتل أعداد كبيرة منهم.
لقد شجعت سياسة العفو والتسامح مع أعداء الثورة على إيغال أولئك المتآمرين، واستمرارهم في التآمر، على عكس ما تصور عبد الكريم قاسم من أن إصدار العفو عنهم سوف يردهم عن التآمر.
14ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم مسالة الصراع مع القوى المضادة للثورة الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، الذي أحدث ثورة اجتماعية سلبت السلطة من الإقطاعيين دعائم الإمبريالية.
ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون، وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين، واستغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب.
15 ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم ما سوف يسببه صراعه مع شركات النفط من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 961 ، والذي أنتزع بموجبه 99,9% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة الشركات، والعمل على استغلالها وطنياً.
لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة والحذر من أحابيل ومؤامرات شركات النفط حرصاً على مصالحها، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء.
16ـ قيام التمرد الكردي بقيادة الإقطاعيين [ رشيد لولان ] و[عباس مامند]، وانجرار الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة الملا مصطفى البارزاني إلى تلك الحركة، ولجوء السلطة إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع الأكراد، مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط، ومع التمرد الرجعي لرشيد لولان وعباس مامند المدعم من قبل الإمبريالية الأمريكية وحليفها [شاه إيران].
ففي الفترة بين 20 ـ 23 تموز أجتمع السفير الأمريكي في طهران [ هولمز] بالشيوخ المتمردين، وتم إرسال [ علي حسين أغا المنكوري ] على رأس عصابة مسلحة بالأسلحة الأمريكية، وبإشراف خبراء أمريكان، ليفرض سيطرته على ناحية [تاودست ] كما أعترف الأسرى من المتمردين بأنهم يحصلون على العون والأسلحة من الولايات المتحدة، وبريطانيا عن طريق إيران .
وفي بداية عام 963 ، عندما كانت الحرب تدور في كردستان، كنت آنذاك في مدينة السليمانية إحدى أكبر مدن كردستان ، أتابع مجريات تلك الحرب، واتحسر على ما آلت إليه الأمور في بلادي، حيث يقتل العراقيون بعضهم بعضاً .
ومن المؤسف أيضاً أن ينجر الحزب الشيوعي، بسبب من الضغوط التي مارسها قاسم ضده، إلى الحركة الكردية، بعد أن وقف منذُ البداية مطالباً بالسلم في كردستان، والديمقراطية للعراق، تاركاً النظام منعزلاً وجهاً لوجه أمام مؤامرات الإمبريالية وعملائها. كما يتحمل قاسم جانباً كبيراً من المسؤولية في إيصال الأمور مع القيادة الكردية إلى مرحلة الصراع المسلح .
17 ـ اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق الذي لم يجر عليه أي تغيير سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد، ومعلوم أن ذلك الجهاز الذي أنشأته ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك لم يكن يدين بالولاء للثورة، ولا لزعيمها عبد الكريم قاسم، وكان لها دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية، والحركات التآمرية عن السلطة، وحماية المتآمرين ومما يؤكد هذا الحديث الذي جرى مع مدير الأمن العام [ مجيد عبد الجليل ] الذي جيء به إلى دار الإذاعة، التي اتخذها الانقلابيون مقراً لهم، وقام علي صالح السعدي أمين سر حزب البعث بالبصق في وجهه فما كان من مدير الأمن العام إلا أن قال له : { لماذا تبصق في وجهي ؟ فلولاي لما نجح الانقلاب}، وهذا خير دليل على عدم أمانة ذلك الجهاز الذي أعتمد عليه عبد الكريم قاسم
ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن، والذي أنيط به حماية الثورة من المتآمرين، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة، وكان على رأسهم رئيس الجهاز[ محسن الرفيعي ] ومن قبله [ رفعت الحاج سري] الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للشواف، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه.
كما أن موقف رئيس أركان الجيش والحاكم العسكري العام [ أحمد صالح العبدي ] المتخاذل دل على مساومة الانقلابيين، والسكوت عن تحركاتهم، فلم ينل منهم أذى، وأطلق سراحه بعد أيام قلائل، فيما جرى إعدام كل المخلصين لثورة تموز وقيادتها.
18 ـ قيام الطلاب البعثيين والقوميين بإضراب عام ساندهم فيه أعضاء ومؤيدي الحزب الديمقراطي الكردستاني، مستخدمين كل الوسائل والسبل، بما فيها العنف، لمنع الطلاب من مواصلة الدراسة، ولم يكن موقف السلطة من الإضراب يتناسب وخطورته، فقد اتخذت السلطة جانب اللين مع المضربين ولم تحاول كبح جماحهم، وكسر الإضراب ، وكان ذلك الإضراب بداية العد التنازلي لتنفيذ الانقلاب .
ولابد أن أشير هنا إلى الدور الذي لعبته سفارة العربية المتحدة في دعم الإضراب ، وطبع المنشورات، وقد اضطرت الحكومة العراقية إلى طرد أحد الملحقين في السفارة في 24كانون الثاني 1963.
ثانيا: مَنْ أعدّ وساهم في الانقلاب ؟
لاشك في أن الدور الأول في الإعداد للانقلاب كان لشركات النفط، بعد أن أقدم عبد الكريم قاسم على إصدار قانون رقم 80 لسنة 961 ، بعد صراع مرير مع تلك الشركات والتهديدات التي وجهتها إلى حكومة الثورة ، ذلك لأن النفط بالنسبة للدول الإمبريالية أمر لا يفوقه أهمية، أي أمر آخر، ولذلك نجد أن جَلّ اهتمام هذه الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، هو الاستحواذ على منابع النفط، وإحكام سيطرتهم عليها.
ولما جاءت ثورة الرابع عشر من تموز، واتخذت لها خطاً مستقلاً بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية هالهم الأمر، وصمموا منذُ اللحظات الأولى على إجهاض الثورة، والقضاء عليها، وبالفعل نزلت القوات البريطانية في الأردن، والأمريكية في لبنان، وحشدت تركيا قواتها العسكرية على الحدود العراقية من أجل العدوان على العراق.
إلا أن موقف الاتحاد السوفيتي المساند للحكومة الثورية الجديدة، وتحذيره للإمبرياليين من مغبة العدوان على العراق، وحشد قواته على الحدود التركية، وتحذيرها من أي محاولة للتدخل والعدوان، كل تلك الإجراءات أسقطت في يد الإمبريالية، وجعلتهم يفكرون ألف مرة قبل الإقدام على أي خطوة متهورة .
وهكذا جاءت الريح كما لا تشتهي السفن، كما يقول المثل، غير أن الإمبرياليين لم يتركوا مسألة إسقاط الثورة أبداً، بل بادروا إلى تغير خططهم بما يتلاءم والظروف الجديدة، محاولين إنهاء الثورة من الداخل مجندين حزب البعث، وطائفة من القوى القومية لتنفيذ أهدافهم الشريرة، فلقد ذكر [ علي صالح السعدي ] أمين سر حزب البعث في مؤتمر صحفي عقده بعد وقوع انقلاب عبد السلام عارف ضد حكم البعث قائلاً [لقد جئنا إلى الحكم بقطار أمريكي].
كما ذكر الملك حسين، ملك الأردن في مقابلة أجراها معه [ محمد حسنين هيكل ] رئيس تحرير صحيفة الأهرام في فندق [ كريون] في باريس حيث قال الملك:
{تقول لي أن الاستخبارات الأمريكية كانت وراء الأحداث التي جرت في الأردن عام 957 ، أسمح لي أن أقول لك أن ما جرى في العراق في 8 شباط 963 قد حضي بدعم الاستخبارات الأمريكية، ولا يعرف بعض الذين يحكمون بغداد اليوم هذا الأمر، ولكنني اعرف الحقيقة .
لقد عقدت عدة اجتماعات بين حزب البعث والاستخبارات الأمريكية، وعقد أهم تلك الاجتماعات في الكويت، وأزيدك علماً أن محطة إذاعة سرية كانت قد نصبتها الاستخبارات الأمريكية في الكويت، وكانت تبث إلى العراق، وتزود يوم 8 شباط ، رجال الانقلاب بأسماء الشيوعيين وعناوينهم للتمكن من اعتقالهم وإعدامهم }.
كما أن أحد أعضاء قيادة حزب البعث عام 963 ، طلب عدم ذكر أسمه قد ذكر لمؤلف كتاب العراق الكاتب [ حنا بطاطو ] أن السفارة اليوغسلافية في بيروت حذرت بعض القادة البعثيين من أن بعض البعثيين العراقيين يقيمون اتصالات خفية مع ممثلين للسلطة الأمريكية. وهذا ما فيه الكفاية عن الدور الذي لعبته الإمبريالية في الإعداد للانقلاب.
لقد حكم الانقلابيون البعثيون مدة تسعة أشهر كان إنجازهم الوحيد خلالها هو شن الحرب الهوجاء على الشيوعيين والديمقراطيين، وكانت تلك الأشهر بحق أشهر الدماء والمشانق، والسجون والتعذيب، وكل الأعمال الدنيئة، التي يندى لها جبين الإنسانية، حتى وصل الأمر بعبد السلام عارف، شريكهم في الانقلاب، ورئيس جمهوريتهم، بعد انقلاب شباط، أن أصدر كتاباً ضخماً عن جرائمهم وأفعالهم المشينة سماه [المنحرفون] .
8/2/2009
التسميات:
حقيبة المقالات
حقيبة المقالات
0 التعليقات: